الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ }

قوله تعالى: { سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي }: " سمع " إنْ دَخَلَتْ على ما يَصِحُّ أن يُسْمع نحو: " سمعت كلامك وقراءتك " تعدَّت لواحد، وإنْ دخلت على ما لا يَصِحُّ سماعُه بأنْ كان ذاتاً فلا يَصِحُّ الاقتصارُ عليه وحدَه، بل لا بد من الدلالةِ على شيء يُسْمع نحو: " سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم ".

وللنحويين في هذه المسألة قولان، أحدُهما: أنها تتعدى فيه أيضاً إلى مفعولٍ واحد، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفةٌ إنْ كان قبلَها نكرةٌ، وحالاً إنْ كان معرفة. والثاني: ـ قول الفارسي وجماعة ـ تتعدَّى لاثنين الجملةُ في محلِّ الثاني منهما. فعلى قولِ الجمهور يكون " يُنادي " في محلِّ نصب لأنه صفةٌ لمنصوبٍ قبلَه، وعلى قول الفارسي يكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول ثان.

وقال الزمخشري: " تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، فَتُوْقِعُ الفعلَ على الرجل، وتَحْذِف المسموع لأنك وَصَفْتَه بما يسمع أو جعلته حالاً منه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بَدٌّ، وأن تقولَ: سَمِعْتُ كلامَ فلانٍ أو قولَه ". وهذا قولُ الجمهور الذي قَدَّمْتُ لك ذكرَه. إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض عليه فقال: " قوله: ولولا الوصفُ أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكونُ وصفٌ ولا حالٌ ومع ذلك تَدْخُل " سمع " على ذاتٍ لا على مسموع " كقوله تعالى:هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [الشعراء: 72] فأغنى ذكرُ ظرفِ الدعاءِ من المسموعِ ".

وأجاز أبو البقاء في " يُنادي " أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من الضميرِ المستكن في " مناديا ".

فإن قيل: فما الفائدة في الجَمْع بين " منادٍ " و " ينادي "؟ فأجاب الزمخشري بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإِيمان تفخيماً لشأن المنادي لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ للإِيمان، وذلك أنَّ المنادِيَ إذا أطلق ذَهَب الوهمُ إلى منادٍ للحرب أو لإِطفاء الثائرة أو لإِغاثة المكروب أو لكفاية بعضِ النوازِل أو لبعضِ المنافعِ، فإذا قلت: " ينادِي للإِيمان " فقد رَفَعْتَ من شأن المنادي وفَخَّمته.

وأجاب أبو البقاء عنه بثلاثة أجوبة/ أحدها: التوكيد نحو: قم قائماً. الثاني: أنه وُصِل به ما حَسَّن التكريرَ وهو " للإِيمان ". الثالث: أنه لو اقْتُصِر على الاسمِ لجاز أن نسمع معروفاً بالنداء يَذْكُر ما ليس بنداء فلمَّا قال " يُنادِي " ثبتَ أنهم سمعوا نداءَه في هذه الحال.

ومفعولُ " ينادي " محذوف أي: ينادي الناس. ويجوزُ ألاَّ يرادَ مفعول نحو:أَمَاتَ وَأَحْيَا } [النجم: 44]. و " نادى " و " دعا " يتعدَّيان باللام تارة وبـ " إلى " أخرى، وكذلك " ندب ".

السابقالتالي
2