الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }

قوله تعالى: { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ }: هذا جوابٌ لِما تضمَّنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر بالياء جرياً على الاسم الظاهر وهو كالغائبِ وحَسَّن ذلك قولُه بعدَه: " فنبذوه ". والباقون بالتاء خطاباً على الحكاية تقديرُه: " وقلنا لهم " ، وهذا كقوله:وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [البقرة: 83] بالتاء والياء، وتقدَّم تحريره.

وقوله: { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يَحتمل وجهين، أحدهما: واو الحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحال أي: لتُبَيِّنُنَّه غيرَ كاتمين. والثاني: أنها للعطف، وأنَّ الفعلَ بعدها مقسمٌ عليه أيضاً، وإنما لم يُؤكَّد بالنون لأنه منفيٌّ، تقول: " واللهِ لا يقومُ زيد " من غيرِ نونٍ. وقال أبو البقاء: " ولم يأتِ بها في " تكتمونه " اكتفاءً بالتوكيدِ في الأول لأنَّ " تكتمونَه " توكيدٌ " ، وظاهرُ عبارتِه أنه لو لم يكن بعدَ مؤكَّدٍ بالنونِ لزم توكيدُه، وليس كذلك لِما تقدَّم. وقوله: " لأنه توكيدٌ " يعني أنَّ نَفْيَ الكتمان عنهم من قوله: { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } ، فجاءَ قولُه: { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في المعنى.

واستحسن الشيخ هذا الوجهَ ـ أعني جَعْلَ الواوِ عاطفةً لا حاليةً ـ قال: " لأن هذا الوجه الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ بعد الواو حتى تصيرَ الجملةُ اسميةً، لأنَّ المضارع المنفيّ بـ " لا " لا يَصِحُّ دخولُ الواو عليه. وغيره يقول: إنها تمتنع إذا كان مضارعاً مثبتاً فيفهم من هذا أن المضارع المنفيَّ بكلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه.

وقرأ عبد الله " لَتُبَيِّنُونه " من غير توكيد. قال ابن عطية: " وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد، قال سيبويه " انتهى. والمعروف من مذهب البصريين لزومُهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سَعة الكلام، وأنشدوا:
1506ـ وعَيْشِك يا سلمى لأُوقِنُ أنني     لِما شِئْتِ مُسْتَحْلٍ ولو أنَّه القتلُ
وقال آخر:
1507ـ يميناً لأَبْغَضُ كلَّ امرىءٍ     يُزَخْرِفُ قولاً ولا يفعلُ
فأتى باللامِ وحدها، وقد تقدَّم هذا مرةً أخرى بأشبع من هذا الكلام.

وقرأ ابن عباس: " ميثاقَ النبيين ". والضميرِ في قوله: " فنبذوه " يعود على الناس المبيَّن لهم، لاستحالةِ عوْدِه على النبيين، وكان قد تقدَّم لك في قوله تعالى:وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم } [آل عمران: 81] أنه في أحد الأوجه على حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديرِه هنا، أعني قراءة ابن عباس.