الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

قوله تعالى: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ }: هذه تُسَمَّى لامَ الجحود، وينصبُ بعدَها المضارعُ بإضمار " أن " ولا يجوزُ إظهارها. والفرقُ بنيها وبين لام كي أنَّ هذه على المشهور شرطُها أن تكون بعد كونٍ منفي، ومنهم مَنْ يشترط مُضِيَّ الكونِ، ومنهم مَنْ لم يَشْترط الكون، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرْتُه في " شرح التسهيل ".

وفي خبر " كان " في هذا الموضع وما أشبهه قولان، أحدهما: ـ وهو قول البصريين ـ أنه محذوفٌ وأنَّ اللامَ مقويةٌ لتعديةِ ذلك الخبر المقدر لضعفِه، والتقدير: ما كان اللهُ مريداً لأنْ يَذَر، فـ " أن يذر " هو مفعول " مُريداً " ، والتقديرُ: ما كانَ اللهُ مريداً تَرْكَ المؤمنين. والثاني ـ قول الكوفيين ـ: أنَّ اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي وأنَّ الفعلَ بعدها هو خبر " كان " ، واللامُ عندهم هي العاملةُ النصبَ في الفعلِ بنفسِها لا بإضمار " أَنْ " ، والتقديرُ عندهم: ما كان الله يَذَرُ المؤمنين.

وضَعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنَّ النصبَ قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإنْ كان النصبُ بها نفسِها فليست زائدةً، وإن كان النصب بإضمار " أَنْ " فَسَدَ من جهة المعنى لأنَّ " أَنْ " وما في حَيِّزها بتأويل مصدر، والخبرُ في باب " كان " هو الاسمُ في المعنى فيلزم أن يكونَ المصدرُ الذي هو معنىً من المعاني صادقاً على اسمِها وهو مُحال ".

أمَّا قولُه: " إنْ كان النصبُ بها فليست زائدةً " فممنوعٌ؛ لأنَّ العمل لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى أنَّ حروفَ الجر/ تُزاد وهي عاملةٌ، وكذلك " أَنْ " عند الأخفش و " كان " في قوله:
1500ـ..........................   وجيرانٍ لنا كانـوا كــرامِ
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في غيرِ موضع.

و " يَذَرُ " فعلٌ لا يَتَصرَّف كـ " يَدَعُ " استغناءً عنه بتصرُّف مُرادفِه وهو " ترك " ، وحُذِفَتِ الواوُ من " يَذَرُ " من غير موجبٍ تصريفي، وإنما حُمِلت على " يَدَعُ " لأنها بمعناها، و " يَدَعُ " حُذِفَتْ منه الواو لموجبٍ وهو وقوعُ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة، وأمَّا الواوُ في " يَذَرُ " فوقعت بين ياءٍ وفتحة أصلية، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه عند قوله تعالى:وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا } [البقرة: 278].

قوله: { حَتَّىٰ يَمِيزَ } " حتى " هنا قيل: للغاية المجردة بمعنى " إلى " ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " ، وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة. والغايةُ هنا مشكلةٌ على ظاهرِ اللفظِ؛ لأنه يصيرُ المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييزُ بين الخبيث والطيب، ومفهومُه أنه إذا وُجِدت الغايةُ تَرَك المؤمنين على ما أنتم عليه.

السابقالتالي
2