الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }

قوله تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ }: مفعول أول، و " أمواتاً " مفعولٌ ثان، والفاعلُ: إمَّا ضميرُ كل مخاطب أو ضميرُ الرسول عليه السلام كما تقدَّم في نظائره.

وقرأ حميد بن قيس وهشام ـ بخلاف عنه ـ " يَحْسَبَنَّ " بياء الغيبة. وفي الفاعلِ وجهان، أحدهما: أنه مضمرٌ: إمَّا ضميرُ الرسول، أو ضمير مَنْ يَصْلُح للحُسْبان أَيِّ حاسبٍ. والثاني: ـ قاله الزمخشري ـ وهو أن يكون " الذين قُتِلوا " قالِ: " ويجوزُ أَنْ يكون " الذين قُتِلوا " فاعلاً، والتقدير: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين قتلوا أمواتاً أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإنْ قلت: كيف جاز حَذْفُ المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فَحُذِف كما حُذِف المبتدأ في قوله: " بل أحياءٌ " أي: هم أحياءٌ، لدلالة الكلام عليهما.

ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديمِ الضميرِ على مفسَّره، وذلك لا يجوزُ إلا في أبوابٍ محصورةٍ، وعدَّ باب: رُبَّه رجلاً، ونِعْم رجلاً زيدٌ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه، والبدلُ على خلاف فيه، وضمير الأمر. قال: " وزاد بعضُ أصحابنا أن يكون [الظاهر] المفسِّر خبراً، وبأنّ حَذْفَ أحد مفعولي " ظن " اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليلٌ جداً، نَصَّ عليه الفارسي، ومَنَعه ابن ملكون البتة ".

وهذا من تَحَمُّلاته عليه. أمَّا قولُه " يؤدي إلى تقديم المضمر إلى آخره " فالزمخشري لم يقدِّرْه صناعةً بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمَّا أراد أن يُقَدَّر الصناعة النحويةَ قَدَّره بلفظ " أنفسهم " المنصوبةِ وهي المفعول الأول، وأظنُ أنَّ الشيخَ تَوَهَّم أنها مرفوعةٌ تأكيدٌ للضمير في " قُتلوا " ، ولم ينتبه أنه إنما قَدَّرها مفعولاً أولَ منصوبةً. وأمَّا تمشيتُه قولَه على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك، وما عليه من ابنِ مَلْكون؟ وستأتي مواضع يَضْطَرُّ هو وغيرُه إلى حَذْفِ أحد المفعولين كما ستقف عليه قريباً. وتقدَّم الكلام على مادة " حَسِب " ولغاتِها وقراءاتها.

وقرأ ابن عامر: " قُتِّلوا " بالتشديد، وهشام وحده في " لو أطاعونا ما قُتِّلوا " ، والباقون بالتخفيف. فالتشديد للتكثير، والتخفيف صالح لذلك.

وقرأ الجمهور " أحياءٌ " رفعاً على " بل هم أحياء " وقرأ ابن أبي عبلة: " أحياءً " وخَرَّجها أبو البقاء على وجهين، أحدهما: أن تكون عطفاً على " امواتاً " قال: " كما تقول: " ظننت زيداً قائماً بل قاعداً ". والثاني: ـ وإليه ذهب الزمخشري أيضاً ـ أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ تقديره: بل أحسَبُهم أحياءً ". وهذا الوجه سبق إليه أبو إسحاق الزجاج، إلاَّ أنَّ الفارسي رَدَّه عليه في " الإِغفال " قال: " لأنَّ الأمرَ تعيَّن فلا يجوزُ أن يُؤمر فيه بمحسبة، ولا يَصِحُّ أن يُضْمَرَ له إلا فعلُ المحسبة، فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن تُضْمِر فعلاً غيرَ المحسبة: اعتقِدْهم أو اجْعَلْهم، وذلك ضعيفٌ إذ لا دلالة في الكلام على ما يُضْمَر " انتهى.

السابقالتالي
2