الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ }: [ " أَنْ يَغُلًّ " في محلِّ رفعٍ اسمَ كان، و " لنبي " خبرٌ مقدم] أي: ما كان له غُلول أو إغْلال على حَسَبِ القراءتين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ " غَلَّ " مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول لتنافِيهما، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة. وقرأ الباقون " يُغَلَّ " مبنِيّاً للمفعول. وهذه القراءةُ فيها احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من " غَلَّ " ثلاثياً، والمعنى: ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه، فهو نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَغُلُّه أحدٌ. والاحتمال الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ رباعياً، وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من أَغَلَّه: أي نَسَبه إلى الغُلول كقولِهم: أَكْذَبْتُه أي: نَسَبْتُه إلى الكذب، وهذا في المعنى كالذي قبله أي: نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول. والثاني: أن يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم: أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه وأجبنتُه أي: وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً. والظاهر أن قراءة " يَغُلَّ " بالياء للفاعل لا يُقَدَّر فيها مفعولٌ محذوفٌ؛ لأنَّ الغَرَضَ نفيُ هذه الصفة عن النبي من غيرِ نظرٍ إلى تَعَلُّقٍ بمفعولٍ كقولك: " هو يعطي ويمنع " تريدُ إثباتَ هاتَين الصفتين. وقَدَّر له أبو البقاء مفعولاً فقال: " تقديرُه: أَنْ يَغُلَّ المالَ أو الغنيمةَ ".

واختار أبو عبيد والفارسي قراءةَ البناء للفاعل قالا: لأنَّ الفعلَ الواردَ بعدُ " ما كان لكذا أن يفعل " أكثرُ ما يَجِيءُ منسوباً إلى الفاعل نحو:وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } [آل عمران: 145]مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ } [آل عمران: 179] وبابه ورجَّحها بعضُهم بقولِه: { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ } فهذا يُوافِقُ هذه القراءةَ، ولا حُجَّة في ذلك لأنها موافقةٌ للأخرى.

والخَذْلِ والخِذْلاَنِ ضد النصر، وهو تَرْكُ مَنْ تَظُنُّ به النُّصْرة. وأصلُه منْ " خَذَلَتِ الظَّبْيَةُ ولدَها " أي: تركَتْه منفرداً، ولهذا قيل لها: خاذِل. ويقال للولدِ المتروك أيضاً: خاذِل، وهذا على النسب، والمعنى أنها مخذولةٌ، قال بُجَيْر:
1485ـ بجيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ     من الظِّباءِ تُراعي منزلاً زِيَمَا
ويُقال له أيضاً: خَذول، فَعُول بمعنى مَفْعول. قال:
1486ـ خَذُولٌ تُراعِي رَبْرَباً بخميلةٍ     تَنَاولُ أطرافَ البَريرِ وترْتَدي
ومنه يُقال: تَخاذَلَتْ رِجْلا فلانٍ " قال الأعشى:
1487ـ بينَ مَغْلوبٍ تليلٍ خَدُّهُ     وخذولِ الرِّجْلِ من غيرِ كَسَحْ
ومعنى المادة: هذا الترك الخاص.

والغُلول في الأصلِ: تَدَرُّع الخِيانَةِ وتوسُّطها، والغَلَلُ: تَدَرُّعُ الشيء وتوسُّطه، ومنه: " الغَلَلُ " للماءِ الجاري بين الشجرِ، والغِلُّ: الحِقْدُ لكُمونه في الصدر، وتَغَلْغَلَ في كذا: إذا دخَل فيه وتوسَّط، قال:
1488ـ تَغَلْغَلَ حيث لم يَبْلُغْ شَرابٌ     ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ

السابقالتالي
2