الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ }

قوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ }: " ما " نافيةٌ ولا عملَ لها هنا مطلقاً أعني على لغة الحجازيين والتميميين، لأنَّ التميميين لا يُعْملونها البتة، والحجازيون يُعْملونها بشروط منها: ألاَّ ينتقضَ النفيُ بـ " إلا " ، إذ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله وهو شَبَهُها بـ " ليس " في نفي الحال، فيكونُ " محمد " مبتدأً، و " رسول " خبرَه، هذا هو مذهب الجمهور، أعني إهمالَها إذا نُقِضَ نفيُها، وقد أجاز إعمالَها منتقضةً النفيِ بإلاَّ يونس وأنشد:
1452ـ وما الدهرُ إلا منجَنوناً بأهلِه     وما صاحبُ الحاجات إلا مُعَذَّبا
فَنَصَبَ " منجنوناً " و " مُعَذَباً " على خبرِ " ما " ، وهما بعدَ " إلاَ " ، ومثلُه قول الآخر:
1543ـ وما حَقُّ الذي يَعْتُو نهاراً     ويَسْرِقُ ليلَه إلاَّ نَكالا
فـ " حق " اسمُ " ما " و " نَكالاً " خبرُها. وتأوَّلَ الجمهور هذه الشواهدَ على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، وهذا المنصوبُ معمولٌ لذلك الخبر المحذوفِ والتقديرُ: وما الدهرُ إلاَّ يدورُ دورانَ منجنون، فحُذِفَ الفعلُ الناصبُ لـ " دوران " ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه في الإِعراب، وكذا " إلا معذباً " تقديره: يُعَذَّب تعذيباً، فَحُذِفَ الفعل وأُقيم " مُعَذَّباً " مُقامَ " تَعْذيب " كقولِه:وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [سبأ: 19] أي: كلَّ تمزيق، وكذا " إلا نكالاً " وفيه التكلُّفِ ما ترى.

قوله: { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملةِ وجهان، أظهرهما: أنها في محلِّ رفعٍ صفةً لـ " رسولِ ". والثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في " رسول " ، وفيه نظرٌ لجريانِ هذه الصفةِ مَجْرى الجوامد فلا تتحمَّل ضميراً.

و " من قبله ": فيه وجهان أيضاً، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بـ " خَلَتْ ". والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " الرسل " مُقَّدَماً عليها، وهي حينئذٍ حالٌ مؤكدة، لأنَّ ذِكْرَ الخلوِّ يُشْعِرُ بالقبلية. وقرأ ابن عباس: " رسُل " بالتنكير. قال أبو الفتح: " ووجهُها أنه موضعُ تبشيرٍ لامر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكانُ تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وهكذا يُفْعل في أماكن الاقتصاد نحو:وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13]وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [هود: 40] وقال أبو البقاء: " وهو قريب من معنى المعرفة " كأنه يُريدُ أنَّ المرادَ بالرسلِ الجنسُ، فالنكرةُ قريبةٌ منه بهذه الحيِثِيَّةِ، وقراءةُ الجمهور أَوْلى لأنَّها تَدُلُّ على تفخيمِ الرسل وتعظيمِهم.

قوله: { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزةُ لاستفهام الإِنكار، والفاءُ للعطف ورتبتُها التقديمُ لأنها حرفُ عطف، وإنما قُدِّمَت الهمزة لأنَّها لها صَدْرُ الكلام، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينهما فِعْلاً محذوفاً تَعْطِفُ الفاءُ عليه ما بعدَها.

السابقالتالي
2 3