الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

قوله تعالى: { كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ }: قرأ البزي بخلاف عنه بتشديد تاء " تَّمَنَّوْنَ " ، ولا يمكنُ ذلك إلا في الوصلِ، وقاعدتُه أنه يَصِلُ ميم الجمعِ بواوٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قوله:وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [البقرة: 267].

والضميرُ في " تَلْقَوه " فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على الموت، والثاني: عَوْدُه على العدوِّ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لدلالةِ الحالِ عليه.

والجمهور على كسر اللام من " قبل "؛ لأنها معربةٌ لإِضافتِها إلى أَنْ وما في حَيِّزها أي: مِنْ قبل لقائِه. وقرأ مجاهد بن جبر: " من قبلُ " بضم اللام وقطعها عن الإِضافة كقوله:لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم: 4]، وعلى هذا فـ " أَنْ " وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلُ اشتمال من الموت أي: تَمَنَّون لقاء الموتِ كقولك: " رَهَبْتُ العدوَّ لقاءَه ". وقرأ الزهري والنخعي: " تُلاقُوه " ومعناه معنى " تَلْقَوه " لأن " لَقِي " يستدعي أن يكونَ بين اثنين عادةً وإنْ لم يكن على المفاعلة.

قوله: { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } الظاهرُ أن الرؤيةَ بصريةٌ فتكفي بمفعول واحد، وجَوَّزوا أن تكونَ عِلْمية فتحتاجَ إلى مفعول ثان هو محذوف أي: فقد علمتموه حاضراً أي: الموت، إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحد المفعولين في باب " ظن " ليس بالسهل، حتى إنَّ بعضَهم يَخُصُّه بالضرورة كقول عنترة:
1451ـ وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه     مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: فلا تَظُنِّي غيرَه واقعاً مني.

قوله: { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يجوزُ أَنْ تكونَ حاليةً، وهي حالٌ مؤكدة رَفَعَتْ ما تحتملُه الرؤيةُ من المجاز أو الاشتراك، أي: بينهما وبين رؤية القلب، ويجوزُ أن تكونَ مستأنفةً، بمعنى: وأنتم تنظرون في فِعْلِكم الآن بعد انقضاءِ الحرب هل وَفَّيْتُم أو خالَفتم؟ وقال ابن الأنباري: " رأيتموه " أي: قابَلْتُموه وأنتم تنظُرون بعيونكم، ولهذه العلةِ ذَكَرَ النظرَ بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأنَّ الأولَ بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني: بمعنى رؤيةِ العين " وهذا غيرُ معروفٍ عند أهل اللسان، أعني إطلاقَ الرؤيةِ على المقابلة والمواجهة، وعلى تقدير صحتِه فتكونُ الجملةُ من قوله: { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملةً حاليةً مبينِّة لا مؤكدةً؛ لأنها أفادَتْ معنىً زائداً على معنى عاملها، ويجوز أن يُقَدَّر لـ " ينظرون " مفعولاً، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر، إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر. واللهُ تعالى أعلمُ ولله الحمد والمِنَّة/.