الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ }: يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على الموصولِ قبلَه، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكونُ الجملةُ من قولِه: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } جملةً اعتراضٍ بين المتعاطِفَيْن، ويجوزُ أَنْ يكونَ " والذين " مرفوعاً بالابتداء، و " أولئك " مبتدأٌ ثانٍ، و " جزاؤهم " مبتدأٌ ثالثٌ، و " مغفرةٌ " خبرُ الثالث، والثالثُ وخبرُه خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وقوله: { إِذَا فَعَلُواْ } شرطٌ جوابُه " ذكروا " وقوله: { فَٱسْتَغْفَرُواْ } عطفٌ على الجواب، والجملةُ الشرطية وجوابُها صلةُ الموصولِ، والمفعولُ الأولُ لاستغفر محذوفٌ، أي: استغفروا اللهَ لذنوبِهِم. وقد تقدَّم الكلامُ على " استغفر " ، وأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وليس هو هذه اللامَ بل " مِنْ " ، وقد تُحْذَفُ، وقوله: { وَمَن يَغْفِرُ } استفهامٌ معناه النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناءُ.

وقوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ } بدلٌ من الضمير المستكنِّ في " يغفرُ " التقديرُ: لا يغفرُ أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ، والمختارُ هنا الرفعُ على البدلِ لكونِ الكلامِ غيرَ إيجاب، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قولِه تعالى:وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130]. وقال ابو البقاء: " ومَنْ " مبتدأ، و " يغفر " خبرُه، و { إِلاَّ ٱللَّهُ } فاعلٌ أو بدلٌ من المضمر وهو الوجه، لأنك إذا جَعَلْتَ اللهَ تعالى فاعلاً احتجْتَ إلى تقدير ضمير أي: ومَنْ يغفر الذنوبَ له غيرُ الله " وهذا الذي قاله ـ أعني جَعْلَه الجلالَةَ فاعلاً ـ يَقْرُب من الغلط فإنَّ الاستفهامَ هنا لا يُراد به حقيقتُه، إنما يُرادُ النفيُ، والوجهُ ما تقدَّم من كونِ الجلالةِ بدلاً من ذلك الضميرِ المستترِ العائدِ على " مَنْ " الاستفهامية.

قوله: { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكونَ جملةً حاليةً من فاعلِ " استغفروا " أي: استغفروا غيرَ مُصِرِّين، ويجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ منسوقَةً على " فاستغفروا " أي: ترتَّب على فِعْلهم الفاحشةَ ذِكْرُ اللهِ تعالى والاستغفارُ لذنوبهم وعدمُ إصرارِهم عليها، وتكونُ الجملةُ مِنْ قوله: { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } على هذين الوجهين معترضةً بين المتعاطفين على الوجه الثانَي، وبين الحالِ وذي الحالِ على الأول.

قوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن تكونَ حالاً ثانيةً من فاعل " استغفروا " وأن تكونَ حالاً من فاعل " يُصِرُّوا " ، ومفعولٌ " يَعْلَمُون " محذوفٌ للعلمِ به، فقيل: تقديرُه: يعلمونَ أنَّ الله يتوبُ على مَنْ تَابَ، قاله مجاهد. وقيل: يعلمون أنَّ تَرْكَه أَوْلى، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: يَعْلَمُون المؤاخذةَ بها أو عَفْوَ اللهِ عنها. و " ما " في قوله: { عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.

والإِصرارُ: المداوَمةٌ على الشيء وتَرْكُ الإِقلاعِ عنه وتأكيدُ العزم على ألاَّ يتركَه، مِنْ صَرَّ الدنانيرَ: إذا رَبَطَ عليها، ومنه " صُرَّةُ الدارهم " لما يُرْبَطُ بها. وقال الحطيئة يصف خيلاً:
1431ـ عوابِسُ بالشُّعْثِ الكُماةِ إذا ابْتَغَوْا     عُلالَتَها بالمُحْصَداتِ أَصَرَّتِ
أي: ثَبَتَتْ وأقامَتْ مداومةً على ما حُمِلَتْ عليه. وقال الشاعر:
1432ـ يُصِرُّ بالليلِ ما تُخْفِي شواكِلُه     يا ويحَ كلِّ مُصِرِّ القلبِ خَتَّارِ