الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ }

قوله تعالى: { قَدْ كَانَ }: جوابُ قسمٍ محذوفٍ، و " آيةٌ " اسمُ كان، ولم يؤنِّث الفعلَ لأنَّ تأنيثَ الآيةِ مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان، ولوجودِ الفصلِ بـ " لكم " ، فإنَّ الفصلَ مُسَوِّغٌ لذلك مع كونِ التأنيث حقيقاً كقوله:
1187ـ إنَّ امرَأً غَرَّه منكنَّ واحدةٌ     بَعْدي وبعدكِ في الدنيا لمغرورُ
وفي خبر " كان " وجهان أحدُهما: أنه " لكم " و " في فئتين " في محل رفع نعتاً لآية. والثاني: أنه " في فئتين ". وفي " لكم " حينئذ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " آية " لأنه في الأصل صفةٌ لآية، فلما قُدِّم نُصِب حالاً. والثاني: أنه متعلِّقٌ بكان، ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرف وحرف الجر، ولكنْ في جَعْلِ " في فئتين " الخبرَ إشكالٌ، وهو أن حكمَ اسمِ " كان " حُكْمُ المبتدأِ فلا يجوزُ أن يكونَ اسماً لها إلاَّ ما جاز الابتداءُ به، وهنا لو جُعِلَتْ " آية " مبتدأً وما بعدها خبراً لم يَجُزْ، إذ لا مسوِّغَ للابتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعلْتَ " لكم " الخبرَ فإنه جائزٌ لوجودِ المسوِّغِ وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جر.

قوله: { ٱلْتَقَتَا } في محلِّ جرٍ صفةً لفئتين أي: فئتين ملتقيتين.

قوله: { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } العامة على رفع " فئة " وفيها أوجهٌ، أحدها: أن يرتفعَ على البدلِ من فاعل " التقتا " ، وعلى هذا فلا بدَّ من ضمير محذوفٍ يعودُ على " فئتين " المتقدمتين في الذكر، ليسوغَ الوصفُ بالجملة، إذ لو لم يُقَدَّرْ ذلك لما صَحَّ، لخلوِّ الجملةِ الوصفيةِ من ضميرٍ، والتقديرُ: في فئتين التقَتْ فئةٌ منهما وفئةٌ أخرى كافرة. والثاني: أن يرتفعَ علىخبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: إحداهما فئةٌ تقاتِلُ، فقطع الكلامَ عن أولِه، واستأنفه. ومثلُه ما أنشده الفراء على ذلك:
1188ـ إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفَيْنِ شامتٌ     وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ
أي: أحدُهما شامتٌ وآخرٌ مُثْنٍ، أي: وصنفٌ آخرُ مُثْنٍ، ومثلُه في القطع أيضاً قولُ الآخر:
1189ـ حتى إذا ما استقلَّ النجمُ في غَلَسٍ     وغُودر البقلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصودُ
أي: بعضُه مَلْوِيٌّ وبعضُه مَحْصود. وقال أبو البقاء: " فإنْ قلت: فإذا قَدَّرْتَ في الأولى " إحداهما " مبتدأً كان القياسُ أن يكون والأخرى، أي: والفئةُ الأخرى كافرةٌ. قيل: لَمَّا عُلِم أنَّ التفريقَ هنا لنفس الشيءِ المقدَّمِ ذكرُه كان التعريفُ والتنكير واحداً. قلت: ومثلُ الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيتُ المتقدم: " شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ " فجاء به نكرةً دون " أل ".

الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: منهما فئة تقاتل، وكذا في البيت اي: منهم شامتٌ ومنهم مُثْنٍ، ومثلُه قولُ النابغة:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8