الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { وَإِذْ غَدَوْتَ } العامل في " إذ " مضمرٌ تقديرهُ: واذكر إذ غدوت، فينتصِبُ انتصابَ المفعول به لا على الظرف. وجَوَّز بعضُهم أَن يكونَ معطوفاً على " فئتين " في قوله:قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } [آل عمران: 13] أي: قد كان لكم آيةٌ في فئتين وفي إذ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يُعَرَّج عليه.

والغدوُّ: الخروجُ أولَ النهار يقال: غَدا يَغْدُو أي: خَرَجَ غُدْوَةً، ويُسْتعمل بمعنى صار عند بعضهم، فيكونُ ناقصاً يرفع الاسم وينصبُ الخبر، وعليه قولُه [عليه] السلام: " لو توكلتم على الله حَقَّ توكُّلهِ لرزقكم كما يَرزق الطيرَ تَغْدُو خِماصاً وتروُح بِطاناً ".

وقوله: { مِنْ أَهْلِكَ } متعلق بـ " غَدَوْتَ " وفي " من " وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية أي: من بين أهلك، قال أبو البقاء: " وموضعُه نصب تقديره: فارقْتَ أهلك " وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ولا تفسير معنى، فإن المعنى على غير ما ذكر. والثاني: أنها بمعنى مع أي: مع أهلك، وهذا لا يساعده لا لفظٌ ولا معنى.

قوله: { تُبَوِّىءُ } الجملة يجوز أن تكون حالاً من فاعل " غدوت " ، وهي حال مقدرة أي: قاصداً تَبْوِئَةَ المؤمنين، لأنَّ وقت الغدو ليس وقتاً للتَبْوِئة. ويحتمل أن تكون مقارنةً؛ لأنَّ الزمان متسع.

وتُبَوِّىءُ أي: تُنَزِّلُ فهو يتعدى لمفعولين إلى أحدهما نفسه وإلى آخر بحرف الجر، وقد يُحْذف كهذه الآية. ومِنْ عدم الحذف قولُه تعالى:وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } [الحج: 26] وأصله من المَبَاءة وهي المَرْجِعُ. قال:
1418ـ وما بَوَّأ الرحمنُ بَيْتَك منزلاً     بشرقيِّ أجيادِ الصَّفا والمُحَرَّمِ
وقال آخر:
1419ـ كم مِن أخٍ لي صَالحٍ     بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْدا
وقد تقدَّم اشتقاق هذه اللفظة. وقيل: " اللام في قوله " لإِبراهيم " مزيدةٌ، فعلى هذا يكون متعدياً للاثنين بنفسه ".

ومقاعد جمع " مَقْعَد ". والمراد به هنا مكانُ القُعودِ. وقعد قد يكون بمعنى صار في المَثَل خاصة. وقال الزمخشري: " وقد اتُّسِع في قعد وقام حتى أُجْريا مُجرى صار ". قال الشيخ: " أمَّا إجراء " قَعَد " مُجْرى " صار " فقال بعض أصحابنا إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل في قولهم: " شَحَذَ شَفْرَته حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبة " ، وكذلك نَقَد على الزمخشري تخريجَه قوله تعالى:فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً } [الإسراء: 22] بمعنى: فتصيرَ، لأنه لا يَطِّرِدُ إجراء قَعَد مُجْرى صار " قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشري صحيح من كون " قعد " يكون بمعنى صارَ في غير ما أشار إليه هذا القائل، حكى أبو عمر الزاهد عن ابن الأعرابي أن العرب تقول: " قَعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً " أي صار.

السابقالتالي
2