الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

قوله تعالى: { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ }: " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسمية، وعائدُها محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: ينفقونه.

وقوله: { كَمَثَلِ رِيحٍ } خبرُ المبتدأ، وعلى هذا الظاهِر ـ أعني تشبيهَ الشيء المنفَق بالريحِ ـ استُشْكِل التشبيهُ لأنَّ المعنى على تشبيهه بالحَرْث ـ أي الزرعِ ـ لا بالريح. وقد أُجيب عن ذلك بأحد أوجه: الأول: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه يقابِلُ الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية، ولا يقابلُ الأفراد بالأفراد، وهذا قد مر تحقيقه أول البقرة عند قوله تعالى:مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ } [الآية: 17]، وهذا اختيار الزمخشري.

الثاني: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذَكَر أحدَ المُشَبَّهين وتَرَك ذِكْر الآخر، وذَكَر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر، فقد حَذَف مِنْ كلِّ اثنين ما يَدُلُّ عليه نظيرُه، وقد مَرَّ نظيرُ هذا في البقرة عند قولِه تعالى:وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ } [الآية: 171].

واختار هذا ابن عطية، وقال " هذه غايةُ البلاغةِ والإِعجازِ ". الثالث: أنه على حَذْف مضاف: إمَّا من الأول تقديرُه: " مَثَلُ مَهْلِكِ ما ينفقونه " ، وإمَّا من الثاني تقديرُه: كمثل مَهْلِك ريح. وهذا الثاني أظهرُ؛ لأنه يؤدِّي في الأول إلى تشبيه الشيء المُنْفَقِ المُهْلَكِ بالريح، وليس المعنى عليه أيضاً، ففيه عَوْدٌ لِما فُرَّ منه.

وقد ذكر الشيخ التقديرَ المشارَ إليه، ولم ينبِّه عليه، اللهم إلا أن يريد بـ " مَهْلِك " اسمَ مصدر أي: مثلَ إهلاك ما ينفقون، ولكن يُحتاج إلى تقديرِ مثل هذا المضاف أيضاً قبل " ريح " تقديره: مَثَلٌ إهلاك ما ينفقون كمثلِ إهلاك ريح. ويجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةٌ، وحينئذ يكونُ قد شَبَّه إنفاقَهم في عدمِ نفعِه بالريحِ الموصوفةِ بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

قوله: { فِيهَا صِرٌّ } في محل جر نعتاً لـ " ريح " ، ويجوز أن يكونَ " فيها صِرٌّ " جملةً من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون " فيها " وحدَه هو الصفةَ، و " صِرُّ " فاعلٌ به، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف، وهذا أحسنُ؛ لأنَّ الأصلَ في الأوصافِ الإِفرادُ، وهذا قريبٌ منه.

والصِرُّ " قيل: البردُ الشديد المحرق، قال:
1392ـ لا يَعْدِلَـنَّ أتاوِيُّـونَ تضرِبُهـم     نكبـاءُ صِـرٌّ بأصحـابِ المُحِــلاَّتِ
وقيل: " الصِرُّ " بمعنى الصَّرْصَر، وهو الشيء البارد، قالت ليلى الأخيلية:
1393ـ ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الأَلَدَّ ويَمْلأ الــــ   ـجِفانَ سَدِيفاً يومَ نكباءَ صرصرِ
وأصلُهُ مأخوذٌ من الشَّدَّ والتعقيد، ومنه: الصُرَّة للعُقْدة، وأَصَرَّ على كذا: لَزِمه. وقال بعضُهم: " الصِرُّ " صوتُ لهيبِ النار، يكون في الريح مِنْ: صَرَّ الشيءُ يَصِرُّ صريراً أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروفِ، ومنه: صرير الباب. قال الزجاج: " والصِرُّ: صوت النار التي في الريح " وإذا عُرِف هذا فإنْ قلنا: الصِرُّ: البردُ الشديد أو هو صوتُ النار أو صوتُ الريح، فظرفية الريحِ له واضحةٌ، وإنْ كان الصِرُّ صفةَ الريح كالصرصر فالمعنى:/ فيها قِرَّةٌ صِرٌّ، كما تقول: برد بارد، وحُذِف الموصوفُ وقامت الصفةُ مَقَامَه، أو تكونُ الظرفيةُ مجازاً جُعِل الموصوفُ ظرفاً للصفة كما قال:

السابقالتالي
2