الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }

قوله تعالى: { لَيْسُواْ سَوَآءً }: الظاهرُ في هذه الآية أن الوقف على " سواء " تامٌ، فإنَّ الواوَ اسمُ " ليس " ، و " سواءً " خبر، والواو تعودُ على أهل الكتاب المتقدِّم ذكرُهم، والمعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقولِهِ:مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 110] فانتفى استواؤُهم. و " سواء " في الأصلِ مصدرٌ فلذلك وُحِّد، وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ البقرة.

وقال أبو عبيدة: " الواو في " ليسوا " علامةٌ جمعٍ وليست ضميراً، واسمُ " ليس " على هذا " أمةٌ " و " قائمةٌ " صفتها، وكذا " يَتْلُون " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث " كقوله الآخر:
1389ـ يَلُومونني في اشتراءِ النخيــ   ـــلِ أَهْلي فكلُّهمُ أَلْوَمُ
قالوا: " وهي لغةٌ ضعيفةٌ ". ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفةً، ونَسبَها بعضُهم لأزدِ شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآنِ مثلُها، وسيأتي تحقيقُ هذا في المائدة بزيادةِ بيان.

قال ابن عطية: " وما قاله أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يُبَيِّن وجهَ الخطأ، وكأنه تَوَهَّم أنَّ اسم " ليس " هو " أمة قائمة " فقط، وأنه لا محذوف ثمَّ، إذ ليس الغرضُ تفاوتَ الأمةِ القائمة التالية، فإذا قُدِّر ثَمَّ محذوفٌ لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً، إلا أن بعضهم رَدَّ قوله بأنها لغة ضعيفة، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يَصِحُّ به المعنى، أي: ليس سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فهذا تقديرٌ يَصِحُّ به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة.

وقال االفراء: " إنَّ الوقف لا يَتِمُّ على " سواء " ، فجعل الواوَ اسمَ " ليس " و " سواءً " خبرها، كما قال الجمهور، و " أمة " مرتفعة بـ " سواء " ارتفاعَ الفاعل، أي: ليس أهلُ الكتاب مستوياً منهم أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة، فَحُذِفَتِ الجملةُ المعادِلة لدلالةِ القسمِ الأولِ عليها كقولِ الشاعر:
1390ـ دعاني إليها القلبُ إني لأَِمْرِها     سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ، فَحُذِف " الغَيّ " لدلالةِ ضدِّه عليه، ومثلُه قولُ الآخر:
1391ـ أراكَ فما أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَه     وذو الهَمِّ قِدْماً خاشِعٌ مُتَضائِلُ
أي: أَهَمٌّ هممته أم غيرُه، فَحُذِفَ للدلالةِ، وهو كثيرٌ، قال الفراء: " لأنَّ المساواة تقتضي شيئين كقولِهِسَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } [الحج: 25]، وقولهسَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [الجاثية: 21]. وقد ضُعِّف قولُ الفراء من حيث الحذفُ ومن حيث وَضْعُ الظاهرِ موضِعَ المضمر، إذ الأصل: منهم أمةٌ قائمة، فَوُضِعَ " أهلِ الكتابِ " موضعَ الضمير.

والوجه أن يكونَ " ليسوا سواءً " جملةً تامة، وقولُه: { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ } جملةٌ برأسها، وقولُه: { يَتْلُونَ } جملةً أخرى مبيِّنَةً لعدم استوائِهم، كما جاءَتِ الجملةُ مِنْ قولِه:

السابقالتالي
2