قوله تعالى: { أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ }: أينما شرطٌ وهي ظرفُ مكان و " ما " مزيدةٌ فيها، فـ " ثُقفوا " في محلِّ جزمٍ بها، وجوابُ الشرط: إمَّا محذوفٌ أي: أينما ثُقِفوا غُلِبوا وذُلُّوا، دلَّ عليه قوله: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } ، وإمَّا نفسُ " ضُرِبَتْ " عند مَنْ يُجيز تقديمَ جواب الشرطِ عليه، فـ { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } لا محلَّ له على الأول ومحلُّه الجزمُ على الثاني. قوله: { إِلاَّ بِحَبْلٍ } هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو استثناءٌ مفرغٌ من الأحوال العامة. قال الزمخشري: " وهو استثناءٌ من عامِّ أعمِّ الأحوال، والمعنى: " ضُرِبَتْ عليهم الذِّلَّةُ في عامة الأحوال إلاَّ في حال اعتصامهم بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس " ، وعلى هذا فهو استثناءٌ متصلٌ وقال الزجاج والفراء: " هو استثناءٌ منقطعٌ ". فقدَّره الفراء: " إلاَّ أَنْ يَعْتصموا بحبل من الله " ، فَحَذَف ما يتعلَّق به الجارُّ، كما قال حميد بن ثور الهلالي:
1388ـ رَأَتْني بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مخافةً
وفي الحبلِ رَوْعاءُ الفؤادِ فَروقُ
أراد: أقلبت بحبلَيْها، فَحَذَفَ الفعلَ للدلالة عليه. ونظَّره ابن عطية بقوله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً } [النساء: 92] قال: " لأن باديَ الرأي يُعْطي أنَّ له أن يَقْتُلَ خطأ، وأنَّ الحبل من الله ومن الناس يُزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما في الكلام محذوف/ يدركه فهمُ السامعِ الناظرِ في الأمر، وتقديرُه في آيتنا: " فلا نجاة من الموت إلا بحبلٍ " قال الشيخ: " وعلى ما قَدَّره لا يكونُ استثناء منقطعاً لأنه مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله: " فلا نجاة من الموت " وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورةَ أنَّ الاستثناءَ الواحدَ لا يكونُ منقطعاً متصلاً، والاستثناءُ المنقطعُ كما تقرَّر في علمِ النحو على قسمين: منه ما يُمْكِنُ أَنْ يتسلَّط عليه العاملُ، ومنه ما لا يمكن في ذلك، ومنه هذه الآيةُ على تقديرِ الانقطاعِ، إذ التقديرُ: لكنَّ اعتصامَهم بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من الناس يُنْجِيهم من القتلِ والأسْر وسَبْيَ الذَّراري واستئصالِ أموالِهم، ويَدُلُّّ على أنه منقطعٌ: الإِخبارُ بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة:{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [البقرة: 61] فلم يَسْتَثْنِ هناك ". وما بعدَ هذه الآيةِ قد تقدَّم إعرابه.