الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }

قوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ } في العاملِ في هذا الظرفِ وجوهٌ، أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمَّنه " لهم " والتقديرُ: وأولئك استقر لهم عذابٌ يومَ تبيضُّ. وقيل: العامل فيه مضمر يَدُلُّ عليه الجملة السابقة تقديرُه: يُعََّذبون يومَ تبيضُّ وجوهٌ. وقيل: العاملُ فيه " عظيم " وضَعُف هذه بأنه يلزمُ تقييدُ عِظَمِه بهذا اليوم. وهذا التضعيفُ ضعيفٌ؛ لأنه إذا عَظُم في هذه اليومِ ففي غيره أَوْلى، وأيضاً فإنه مسكوتٌ عنه فيما عدا هذا اليوم. وقيل: العاملُ " عذاب ". وهذا ممتنعٌ؛ لأن المصدر الموصوفَ لاَ يَعْمَلُ [بعدَ] وَصْفِه.

وقرأ يحيى بن وثاب وأبو نُهَيْك وأبو رزين العقيلي: " تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ " بكسر التاء وهي لغةُ تميم، وقرأ الحسن والزهري وابن محيصنِ وأبو الجوزاء: " تَبياضُّ وتَسوادُّ " بألف فيهما، وهي أبلغ فإنَّ " ابياضَّ " أدلُّ على اتصافِ الشيء بالبياضِ من ابيضَّ، ويجوز كسرُ حرفِ المضارعة أيضاً مع/ الألفِ، إلا أنِّي لا أَنْقُلُه قراءةً لأحد.

قوله: { أَكْفَرْتُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر، وذلك القولُ المضمرُ مع فاءٍ مضمرةٍ أيضاً هو جوابُ أمّا، وحَذْفُ الفاءِ مع القول مُطَّردٌ، وذلك أنَّ القولَ يُضمر كثيراً كقوله تعالى:وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [الرعد: 23-24]وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ } [الزمر: 3]وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [البقرة: 127] وأمَّا حذْفُها دونَ إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورةٍ كقوله:
1378ـ فأمَّا القتالُ لا قِتالَ لديكُمُ     ولكنَّ سيراً في عِراضِ المواكبِ
أي: فلا قتالَ.

وقال صاحب " أسرار التنزيل ": " بل قد اعتُرِض على النحاة في قولهم: " لَمَّا حُذِف " يُقال " حُذِفت الفاءُ " بقولِه تعالى:وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [الجاثية: 31] فَحَذَف " يُقال " ولم يَحْذِفِ الفاء، فلمَّا بَطَل هذا تعيَّن أن يكونَ الجوابُ في قوله: { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فوقعَ ذلك جواباً له، ولقولِهِ: { أَكَفَرْتُم } ، ومِنْ نَظْمِ العربِ إذا ذَكَروا حرفاً يقتضي جواباً له أَنْ يَكْتَفُوا عن جوابهِ حتى يَذْكُروا حرفاً آخَر يقتضي جَواباً، ثم يَجْعَلُون له جواباً واحداً كما في قوله تعالى:فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38]، فقوله: { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } جوابٌ للشرطين معاً، وليس " أفلم " جوابَ " أمَّا " بل الفاءُ عاطفةٌ على مقدَّرٍ، والتقدير: أأهملتكم فلم أتلُ عليكم آياتي ".

قال الشيخ: " وهو كلامُ أديبٍ لا كلامُ نحوي، أمَّا قولُه: " قد اعتُرِض على النحاة " فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراضِ أنه اعتراضٌ على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلاَّ ويَخْرِّج الآيةَ على إضمارِ فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب: وهو أن يكون في الكلام شيءٌ مقدرٌ لا يَسْتَغني المعنى عنه، فالقولُ بخلافِه مُخالِفٌ للإِجماع فلا التفاتَ إليه.

السابقالتالي
2 3