الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

قوله تعالى: { بِحَبْلٍ }: الحَبْلُ في الأصل هو السبَبُ، وكلُّ ما وصلك إلى شيء فهو حَبْل، وأَصلُه في الأجرام واستعمالُه في المعاني من باب المجاز، ويجوزُ أن يكونَ حينئذٍ من باب الاستعارة، ويجوز أن يكونَ من بابِ التمثيل، ومن كلامِ الأنصار رضي الله عنهم: " يا رسول الله إنَّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها " ـ يَعْنُون العهود والحِلْف. قال الأعشى:
1371ـ وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلةً     أَخَذَتْ من الأخرى إليكَ حِبالَها
يعني العهودَ، قيل: والسببُ فيه أنَّ الرجلَ كان إذا سافرَ خافَ فيأخذُ من القبيلةِ عهداً إلى أخرى، ويُعْطَى سهماً أو حبلاً يكونُ معه كالعلامةِ، فَسُمِّي العهدُ حبلاً لذلك، وهذا معنىً غيرُ طائلٍ، بل سُمِّي العهدُ حبلاً للتوصُّلِ به إلى الغرض. وقال آخر:
1372ـ ما زِلْتُ معتصِماً بحبلٍ منكُم     ..........................
والمرادُ بالحبل هنا القرآنُ، وفي الحديثِ الطويل: " هو حَبْلُ الله المتين ".

وقوله: " جميعاً " حالٌ من فاعل " اعتصموا " ، و " بحبل الله " متعلِّقٌ به. قوله: " ولا تَفَرَّقوا " قرأه البزي بتشديد التاء وصلاً، وقد تقدَّم توجيهُه في البقرة عند قولِه:وَلاَ تَيَمَّمُواْ } [البقرة: 267]، والباقوُن بتخفيفها على الحَذْفِ.

وقوله: { نِعْمَةَ ٱللَّهِ } مصدرٌ مضاف لفاعله إذ هو المُنْعِم، و " عليكم " يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً بنفس " نعمة " لأنَّ هذه المادَة تتعدَّى بـ " على " [نحو:]لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 37] ويجوز أَن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من " نعمة " فيتعلَّقُ بمحذوفٍِ أي: مستقرة وكائنة عليكم.

قوله: { إِذْ كُنْتُمْ } " إذ " منصوبةٌ بنعمة ظرفاً لها، ويجوزُ أَنْ يكون متعلقاً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه " عليكم " إذا قلنا: إنَّ " عليكم " حالٌ من النعمة، وأمَّا إذا عَلَّقْنا " عليكم " بنعمة تَعَيَّن الوجُه الأول. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ منصوباً باذكروا، يعني مفعولاً به لا أنه ظرفٌ له لفسادِ المعنى، إذ " اذكروا " مستقبلٌ، و " إذ " ماضٍ.

قوله: { فَأَصْبَحْتُمْ } أصبحَ من أخواتِ " كان " فإذا كانَتْ ناقصة كانت مثلَ " كان " في رفعِ الاسمِ ونَصْبِ الخبر، وإذا كانَتْ تامةً رفَعَتْ فاعلاً واستغنَتْ به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول: " أصبحَ زيد " أي دخل في الصباح، ومثلُها في ذلك " أمسى " ، قال تعالى:فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم: 17] وقوله:وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [الصافات: 137] وفي أمثالهم: " إذا سَمِعْتُ بسُرى القَيْن فاعلَمْ أنَّه مُصبح " لأنَّ القَيْنَ ـ وهو الحَدَّاد ـ ربما قَلّت صناعته في أحياءِ العرب فيقول: أنا غداً مسافرٌ ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيمُ ويتركُ السفر، فأخرجُوه مَثَلا لمن يقول/ قولاً ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى " صار " عملاً ومعنى كقوله:

السابقالتالي
2 3 4