الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }

قوله: { هُوَ أَفْصَحُ }: الفَصاحَةُ لغةً: الخُلوصُ. ومِنْه فَصُحَ اللبنُ وأَفْصَحَ فهو مُفْصِحٌ وفَصيح أي: خَلَصَ من الرَّغْوَة. ورُوِي/ قولُهم:
3606ـ.......................     وتحتَ الرَّغْوَةِ اللبنُ الفَصيحُ
ومنه فَصُحَ الرجل: جادَتْ لغُته. وأَفْصَحَ: تكلَّم بالعربية. وقيل: بالعكس. وقيل: الفصيح الذي يَنْطِقُ. والأعجمُ: الذي لا ينطقُ. وعن هذا اسْتُعير أَفْصَح الصبحُ أي: بدا ضَوْءُه. وأفصح النصرانيُّ: دنا فِصْحُه بكسرِ الفاءِ وهو عيدٌ لهم. وأمَّا في اصطلاحِ أهل البيانِ فهي خُلُوصُ الكلمة من تنافرِ الحروفِ كقوله: " تَرْعَىٰ الهِعْخِع ". ومن الغرابةِ. كقوله:
3607ـ................... ومَرْسِناً مُسَرَّجاً   
ومِنْ مخالفةِ القياس اللغوي كقوله:
3608ـ.................... العَليِّ الأَجْلَل   
وخُلوصُ الكلام من ضعفِ التأليف كقوله:
3609ـ جزىٰ ربُّه عني عَدِيَّ بنَ حاتمٍ     ...........................
ومن تنافرِ الكلماتِ كقولهِ:
3610ـ وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرِ     وليسَ قربَ قبرِ حَرْبٍ قبرُ
ومن التعقيدِ وهو: إمَّا إخلالُ نظمِ الكلامِ فلا يُدْرَىٰ كيفُ يُتوصَّلُ إلى معناه؟ كقوله:
3611ـ وما مثلُه في الناسِ إلاَّ مُمَلَّكاً     أبو أمِّه حيٌّ أبوه يُقارِبُهْ
وإمَّا عَدَمُ انتقالِ الذهنِ من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، الذي هو لازِمه والمرادُ به، ظاهراً كقوله:
3612ـ سأطلبُ بُعْدَ الدارِ عنكم لِتَقْرَبُوا     وَتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لتَجْمُدا
وخُلوصُ المتكلم من النطقِ بجميع ذلك فصارتِ الفصاحةُ يوصف بها ثلاثةُ أشياءَ: الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ بخلاف البلاغةِ فإنه لا يُوْصَفُ بها إلاَّ الأخيران. وهذا له موضوعٌ يُوَضَّحُ فيه، وإنما ذكَرْتُ لك ما ينبِّهُك على أصلِه.

و[قوله]: " لِساناً " تمييز.

قوله: " رِدْءاً " منصوبٌ على الحال. والرِّدْءُ: العَوْنُ وهو فِعْلٌ بمعنى مَفْعول كالدِّفْءِ بمعنى المَدْفوء به. ورَدَأْتُه على عَدُوِّه أَعَنْتُه عليه. ورَدَأْتُ الحائط: دَعَمْتُه بخشَبَة كيلا يَسْقُطَ. وقال النحاس: " يقال: " رَدَأْته وأَرْدَأْته ".

وقال سلامة بن جندل:
3613ـ ورِدْئي كلُّ أبيضَ مَشْرَفيٍّ     شَحيذِ الحَدِّ أبيضَ ذي فُلولِ
وقال آخر:
3614ـ ألم تَرَ أنَّ أَصْرَمَ كان رِدْئي     وخيرَ الناسِ في قُلٍّ ومالِ
وقرأ نافع " رِدا " بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلاَّ أنه لم يُنَوِّنْه كأنه أَجْرَىٰ الوصلَ مُجْرَىٰ الوقفِ. ونافعٌ ليس من قاعدتِه النقلُ في كلمةٍ إلاَّ هنا. وقيل: ليس فيه نَقْلٌ وإنما هو مِنْ أَرْدَىٰ على كذا. أي: زاد. قال الشاعر:
3615ـ وأسمرَ خَطِّيّاً كأنَّ كُعُوبَه     نوَىٰ القَسْبِ قد أَرْدَىٰ ذِراعاً على العَشْرِ
أي: زاد [وأنشده الجوهريُّ: قد أَرْبَىٰ، وهو بمعناه].

قوله: { يُصَدِّقُنِي } قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالرفع على الاستئناف أو الصفةِ لـ " رِدْءاً " أو الحالِ من هاء " أَرْسِلْه " ، أو من الضميرِ في " رِدْءاً ". والباقون بالجزمِ جواباً للأمرِ. وزيد بن علي واُبَيٌّ " يُصَدِّقوني " ِأي: فرعونُ ومَلَؤُه. قال ابن خالويه: " وهذا شاهدٌ لِمَنْ جَزَم؛ لأنه لو كان رفعاً لقال " يُصَدِّقونَني " يعني بنونين ".

وهذا سهوٌ من ابن خالويه؛ لأنه متى اجتمعَتْ نونُ الرفعِ من نون الوقايةِ جازَتْ أوجهٌ، أحدها: الحذفُ، فهذا يجوزُ أن يكونَ مرفوعاً، وحَذْفُ نونِه لما ذكرْتُ لك. وقد تقدم تحقيقُ هذا في الأنعام وغيرِها. وحكاه الشيخُ عن ابنِ خالَويه ولم يُعْقِبْه بنَكير.