الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

قوله: { نُودِيَ }: في القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ موسى، وهو الظاهرُ. وفي " أَنْ " حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها المُفَسِّرَةُ لتقدُّمِ ما هو بمعنىٰ القول. والثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، ولكنْ وُصِلَتْ هنا بالماضي. وتقدَّم تحقيقُ ذلك، وذلك على إسقاطِ الخافضِ أي: نُوْدي موسى بأَنْ بُورِك. الثالث: أنها المخففةُ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، و " بُوْرِك " خبرُها، ولم يَحْتَجْ هنا إلى فاصلٍ؛ لأنه دعاءٌ، وقد تقدَّم نحوُه في النور في قوله: { أَنْ غَضِب } [النور: 9] في قراءته فعلاً ماضياً.

قال الزمخشري: " فإن قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ المخففةَ من الثقيلةِ، والتقدير: بأنَّه بُورك. والضميرُ ضميرُ الشأنِ والقصةِ؟ قلت: لا لأنه لا بُدَّ مِنْ " قد ". فإنْ قلتَ: فعلى إضمارِها؟ قلت: لا يَصِحُّ لأنها علامةٌ ولا تُحْذَفُ ". انتهى. فمنع أَنْ تكونَ مخففةً لِما ذًُكِر، وهذا بناءً منه على أَنَّ " بُوْرِكَ " خبرٌ لا دعاءٌ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه دعاءٌ كما تقدَّم في النورِ فلا حاجةَ إلى الفاصلِ كما تقدَّم. وقد تقدَّم فيه استشكالٌ: وهو أنَّ الطلبَ لا يَقَعُ خبراً في هذا البابِ فكيف وَقَعَ هذا خبراً لـ " أَنْ " المخففةِ وهو دُعاءٌ؟

الثاني: من الأوجهِ الأُوَلِ: أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ نفسُ " أَنْ بُوْرِكَ " على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي: بأَنْ بُوْرِكَ. و " أَنْ " حينئذٍ: إمَّا ناصبةٌ في الأصلِ، وإمَّا مخففةٌ.

الثالث: أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعلِ أي: نُودي النداءُ، ثم فُسِّر بما بعدَه. ومثلُهثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [يوسف: 35].

قوله: { مَن فِي ٱلنَّارِ } " مَنْ " قائمٌ مقامَ الفاعلِ لـ " بُوْرك ". وبارَكَ يتعدَّىٰ بنفسِه، ولذلك بُني للمفعولِ. يقال: بارَكَكَ اللهُ، وبارَكَ عليكَ، وبارَكَ فيك، وبارك لكَ، وقال الشاعر:
3539ـ فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً     وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب إذ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبدُ الله بن الزبير:
3540ـ فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ     إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ
وقال آخر:
3541ـ بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْ   رِكَ نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ
والمرادُ بـ " مَنْ ": إمَّا الباري تعالى، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي: مَنْ قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار. وقيل: المرادُ به موسىٰ والملائكةُ، وكذلك بمَنْ حولَها. وقيل: المرادُ بـ " مَنْ " غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي حولَها.

قوله: { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ } فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه من تتمَّةِ النداءِ أي: نُوْدِي بالبركةِ وتَنْزِيْهِ ربِّ العزَّةِ. أي: نُودي بمجموعِ الأمرَيْنِ. الثاني: أنه من كلامِ اللهِ تعالىٰ مخاطِباً لنبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، وهو على هذا اعتراضُ بين أثناءِ القصةِ. الثالث: أنَّ معناه: وبُوْرِك مَنْ سَبَّح اللهَ. يعني أنه حَذَفَ " مَنْ " وصلَتها وأَبْقَىٰ معمولَ الصلةِ إذ التقدير: بُوْرِكَ مَنْ في النار ومَنْ حَوْلَها، ومَنْ قال: سبحان الله و " سُبْحانَ " في الحقيقةِ ليس معمولاً لـ " قال " بل لفعلٍ مِنْ لفظِه، وذلك الفعلُ هو المنصوبُ بالقول.