الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }

قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ }: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعلُ " يَعْلَمُ " و " مَنْ " مفعولُه. و " الغيبَ " بدلٌ مِنْ " مَنْ السماواتِ " أي: لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي: الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ. وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ. الثاني: أنه مستثنى متصلٌ مِنْ " مَنْ " ، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنىٰ: أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ، فيَنْدَرِجُ في { مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ } بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ " مَنْ " وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ.

وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا: بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال: " فإنْ قلتَ: لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ، واللهُ يَتعالَىٰ أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت: جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون: " ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ " يريدون: ما فيها إلاَّ حمارٌ، كأنَّ " أحداً " لم يُذْكَرْ. ومنه قولُه:
3577ـ عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها     ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولُهم: " ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه ". فإنت قلت: ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت: دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنىٰ مُخْرَجَ قولِه:
3578ـ إلاَّ اليَعافِيرُ....................   
بعد قوله:
3579ـ.................. لَيْسَ بها أنيسُ   
ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك: إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ. يعني: أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم. كما أنَّ معنىٰ ما في البيت: إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ. فإن قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ، كما يقول المتكلمون: " إنَّ الله في كلِّ مكان " على معنىٰ: أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ " قلتُ: يَأْبَىٰ ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ. على أنَّ قولَك " مَنْ في السماوات والأرض: وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه. ألا ترىٰ كيف " قال عليه السلام لِمَنْ قال: " ومَنْ يَعْصِهما فقد غوىٰ " " بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت " " قلت: فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر. وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة. وقد قال به الشافعيُّ ".

قوله: { أَيَّانَ } هي هنا، بمعنى " متى " / وهي منصوبةٌ بـ " يُبْعَثون " فتعلُّقُه بـ " يَشْعُرون " فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي: ما يَشْعرون بكذا. وقرأ السُّلميٌّ " إيَّان " بكسرِ الهمزةِ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم.