الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

قوله: { ٱلصَّرْحَ }: قد تقدم الخلافُ في الظرف الواقع بعد " دخل ": هل هو منصوبٌ على الظرفِ؟ وشَذَّ ذلك مع " دخل " خاصةً كما قاله سيبويه، أو مفعول به كهَدَمْتُ البيتَ كما قاله الأخفش. والصَّرْحُ: القَصْرُ أو صَحْنُ الدارِ أو بَلاطٌ متخَذٌ مِنْ زُجاج. وأصلُه من التصرِيح، وهو الكشفُ. وكَذِبٌ صُراحٌ أي: ظاهرٌ مكشوفٌ وَلُؤْمٌ صُراحٌ. والصَّريحُ: مقابِلُ الكنايةِ لظهورِه واستتارِ ضدِّه. وقيل: الصريحُ: الخالِصُ، مِنْ قولِهم: لَبَنٌ صَريحٌ بَيِّنُ الصَّراحَةِ والصُّرُوْحَةِ.

وقال الراغب: " الصَّرْحُ: بيتٌ عالٍ مُزَوَّقٌ، سمِّي بذلك اعتباراً بكونِه صَرْحاً عن/ الشَّوْبِ أي: خالصاً ".

قوله: { سَاقَيْهَا } العامَّةُ على ألفٍ صريحةٍ. وقنبل روىٰ همزَها عن ابنِ كثير. وضَعَّفَها أبو عليّ. وكذلك فعل قنبل في جمع " ساق " في ص، وفي الفتح هَمَزَ واوَه. فقرأ " بالسُّؤْقِ والأَعْناق " " فاسْتَوَىٰ على سُؤْقِه " بهمزةٍ مكانَ الواوِ. وعنه وجهٌ آخرٌ: " السُّؤُوْق " و " سُؤُوْقة " بزيادة واوٍ بعد الهمزةِ.

ورُوِي عنه أنه كان يَهْمِزُه مفرداً في قوله: { يُكْشَفُ عَن سَأْقٍ } [القلم: 42].

فأمَّا هَمْزُ الواوِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنَّ الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلَها يَقْلِبُها بعضُ العربِ همزةَ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أولِ البقرةِ عند " يُوْقنون " وأنشَدْتُ عليه:
3574ـ أَحَبُّ المُؤْقِدِين إليَّ مُوْسَىٰ     ...........................
وكان أبو حَيَّةَ النميري يَهْمِزُ كلَّ واوٍ في القرآن، هذا وَصْفُها. الثاني: أنَّ ساقاً على فَعَلَ كأَسَدٍ، فجُمِعَ على فُعُل بضمِّ العين كأُسُدٍ. والواوُ المضمومةُ تُقْلب همزةً نحو: وُجوه، ووُقِّتَتْ، ثم بعد الهمزِ سَكَنَتْ.

الثالث: أنَّ المفردَ سُمِعَ هَمْزُه، كما سيأتي تقريرُه، فجاء جَمْعُه عليه.

وأمَّا " سُؤُوْق " بالواوِ بعد الهمزةِ فإنَّ ساقاً جُمِع على " سُوُوق " بواوِ، فهُمِزَتْ الأولى لانضمامِها. وهذه الروايةُ غريبةٌ عن قنبلٍ، وقد قَرَأْنا بها ولله الحمدُ.

وأمَّا " سَأْقَيْها " فوجهُ الهمزِ أحدُ أوجهٍ: إمَّا لغةُ مَنْ يَقْلِبُ الألفَ همزةَ، وعليه لغةُ العَجَّاج في العَأْلَمِ والخَأْتَمِ. وأنشد:
3575ـ وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ   
وسيأتي تقريرُه أيضاً في " مِنْسَأَته " في سبأ إنْ شاء اللهُ تعالى، وتقدَّم طَرَفٌ منه في الفاتحة، وإمَّا على التشبيهِ برِأْس وكَأْس، كما قالوا: " حَلأْت السَّويق " حَمْلاً على حَلأُتُه عن الماء أي طَرَدْتُه، وإمَّا حَمْلاً للمفرد والمثنى على جَمْعِهما. وقد تَقَرَّر في جمعِهما الهمزُ.

قوله: { مُّمَرَّدٌ } أي مُمَلَّسٌ. ومنه الأَمْرَدُ لِمَلاسَةِ وجهه من الشَّعر. وبَرِّيَّة مَرْدَاء: لخُلُوِّها من النباتِ، ورَمْلَةٌ مَرْداء: لا تُنْبِتُ شيئاً. والمارِدُ من الشياطين: مَنْ تَعَرَّىٰ من الخيرِ وتَجَرَّد منه. ومارِدٌ: حِصْنٌ معروفٌ. وفي أمثال الزَّبَّاء: " تَمَرَّد مارِدٌ وعَزَّ الأَبْلَقُ " قالَتْها في حِصْنَيْنِ امتنع فَتْحُهما عليها.

والقوارِيْرُ: جمعُ قارُوْرة، وهي الزُّجاج الشفافُ. و " مِنْ قواريرَ " صفةٌ ثانية لـ " صَرْحٌ ".

قوله: { مَعَ سُلَيْمَانَ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، ولا يتعلَّقُ بـ " أَسْلَمْتُ "؛ لأنَّ إسلامَه سابقٌ إسلامَها بزمانٍ. وهو وجهٌ لطيفٌ. وقال ابن عطية: " ومع ظرفٌ بُنِيَ على الفتحِ. وأمَّا إذا أُسْكِنَتِ العينُ فلا خِلافَ أنه حرفٌ " قلتُ: قد تقدَّم القولُ في ذلك. وقد قال مكي هنا نحواً مِنْ قولِ ابنِ عطيةَ.