الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }

قوله: { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ }: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منقطِعٌ أي: لكنْ مَنْ أتىٰ اللهَ بقَلْبٍ سليمٍ فإنه ينفَعُه ذلك. وقال الزمخشري: " ولا بُدَّ لك مع ذلك مِنْ تقديرِ مضافٍ وهو الحالُ المرادُ بها السلامةُ، وليست من جنسِ المالِ والبنينَ، حتى يَؤول المعنى إلى: أنَّ البنينَ والمالَ لا ينفعانِ، وإنما ينفعُ سَلامةُ القلبِ، ولو لم يُقَدَّرِ المُضافُ لم يَتَحصَّلْ للاستثناءِ معنىٰ ".

قال الشيخ: " ولا ضرورةَ تَدْعُو ألى حذفِ المضافِ كما ذكر ". قلت: إنما قَدَّرَ المضافَ ليُتَوَهَّمَ دخولُ المستثنى في المستثنى منه؛ لأنه متى لم يُتَوَهَّمْ ذلك لم يَقعِ الاستثناءُ، ولهذا مَنَعوا: " صَهَلَتِ الخيلُ إلاَّ الإِبِلَ " إلاَّ بتأويلٍ.

الثاني: أنه مفعولٌ به لقوله: " لا يَنْفَعُ " أي: لا ينفعُ المالُ والبنونَ إلاَّ هذا الشخصَ فإنه ينفَعُه فإنه ينفَعُه مالُه المصروفُ في وجوهِ البِرِّ، وبنوه الصلحاءُ، لأنه عَلَّمهم وأحسنَ إليهم. الثالث: أنه بدلٌ مِن المفعولِ المحذوفِ، أو مستثنىٰ منه، إذ التقديرُ: لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ أحداً من الناس إلاَّ مَنْ كانت هذه صفتَه. والمستثنى منه يُحْذَفُ كقوله:
3520ـ.......................     ولم يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سيفٍ ومِئْزرا
أي: ولم يَنْجُ بشيءٍ. الرابع: أنه بدلٌ مِنْ فاعلٍ " يَنْفَعُ " فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: " وغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فيكون التقديرُ: إلاَّ مالُ مَنْ، أو بنو مَنْ فإنه ينفع نفسَه وغيرَه بالشفاعة ".

قلت: وأبو البقاء خَلَط وجهاً بوجهٍ: وذلك أنه إذا أرَدْنا أن نجعلَه بدلاً من فاعل " ينفع " فلنا فيه طريقان، أحدهما: طريقةُ التغليب أي: غَلَّبْنا البنين على المالِ، فاستثنى من البنين، فكأنه قيل: لا ينفعُ البنونَ إلاَّ مَنْ أتى مِن البنين بقلبٍ سليم فإنه ينفع نفسَه بصلاحِه، وغيرَه بالشفاعةِ.

والطريقة الثانية: أَنْ تُقَدِّر مضافاً محذوفاً قبل " مَنْ " أي: إلاَّ مالُ مَنْ أو بنو مَنْ فصارَتِ الأوجُه خمسةً.

ووجَّه الزمخشريُّ اتصالَ الاستثناءِ، بوجهين، أحدُهما: إلاَّ حالَ مَنْ أتىٰ اللهِ بقلبٍ سليمٍ، وهو مِنْ قوله:
3521ـ......................     تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
" وما ثوابُه إلاَّ السيفُ " ومثاله أن يقال: هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال: مالُه وبَنُوه سلامةُ قلبِه. تريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثباتَ سلامةِ قلبِه بدلاً عن ذلك. والثاني قال: " وإن شِئْتَ حَمَلْتَ الكلامَ على المعنىٰ وجَعَلْتَ المالَ والبنين في معنى الغِنَىٰ، كأنه قيل: يومَ لا يَنْفع غِنَى إلاَّ غَنى مَنْ أتىٰ، لأنَّ غِنى الرجلِ في دينِه بسلامةِ قلبِه، كما أنَّ غِناه في دنياه بمالِه وبنيه. ".