الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }

قوله: { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ }: العامَّةُ على نونِ العظمةِ فيهما. ورُوِي عن أبي عمرٍو بالياء فيهما أي: إنْ يَشَأْ اللهُ يُنَزَّلْ. و " إنْ " أصلُها أَنْ تدخلَ على المشكوكِ أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُه، والآيةُ من هذا الثاني.

قوله: { فَظَلَّتْ } عطفٌ على " نُنَزِّلْ " فهو في محلِّ جزمٍ. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً غيرَ معطوفٍ على الجزاءِ. ويؤيِّد الأولَ قراءةُ طلحة " فَتَظْلِلْ " بالمضارعِ مفكوكاً.

قوله: { خَاضِعِينَ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن " أعناقُهم ". واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ. وأُجيب عنه بأوجهٍ، أحدُها: أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ، كما قِيل: لهم وجوهٌ وصدورٌ قال:
3505ـ............................     في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ
الثاني: أنه على حذفِ مضافٍ أي: فظلَّ أصحابُ الأعناقِ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ. وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ { وَقُمْراً مُّنِيراً } [الفرقان: 61]. الثالث: أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه:
3506ـ..........................     كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ
الرابع: أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس، وهم الجماعةُ، فليس المرادُ الجارحةَ البتة. ومن قولُه:
3507ـ أنَّ العراقَ وأهلَه     عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
قلت: وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ. إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم. الخامس: قال الزمخشري: " أصلُ الكلامِ: فظلًُّوا لها خاضعين، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع، وتُرِكَ الكلامُ على أصله، كقولهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامة، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور ". قلت: وفي التنظير بقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ " نظرٌ؛ لأنَّ " أهل " ليس مقحماً البتة؛ لأنه المقصودُ بالحكم, وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ. السادس: أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله { ساجِدِين } و { طائِعِين } في يوسف والسجدة.

والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في " أعناقُهم " قاله الكسائي، وضَعَّفه أبو البقاء قال: " لأنِّ " خاضعين " يكون جارياً على غيرِ فاعلِ " ظَلَّتْ " فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل، فكان يجبُ أَنْ يكونَ " خاضعين هم ". قلت: ولم يَجْرِ " خاضعين " في اللفظِ والمعنىٰ إلاَّ على مَنْ هو له، وهو الضمير في " أعناقُهم " ، والمسألة التي قالها: هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ. على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه:مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [الحجر: 47].