الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }

قوله: { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }: يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً لـ " قريةٍ " ، وأَنْ تكونَ حالاً منها. وسَوَّغَ ذلك سَبْقُ النفيِ. وقال الزمخشري: " فإنْ قلتَ: كيف عَزَلْتَ الواوَ عن الجملةِ بعدَ " إلاَّ " ولم تُعْزَلْ عنها في قولِه:وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر: 4] قلت: الأصلُ عَزْلُ الواوِ؛ لأنَّ الجملةَ صفةٌ لـ " قريةٍ ". وإذا زِيْدَتْ فلتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ كما قي قوله:سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22]. قال الشيخ: " ولو قدَّرنا " لها مُنْذِرُون " جملةً لم يَجُزْ أن تجيءَ صفةً بعد " إلاَّ ".

ومذهبُ الجمهورِ أنه لا تجيءُ الصفةُ بعد " إلاَّ " معتمدةً على أداةِ الاستثناءِ نحو: ما جاءَني أحدٌ إلاَّ راكبٌ. وإذا سُمِع مثلُ هذا خَرَّجوه على البدلِ، أي: إلاَّ رجلٌ را كبٌ. ويَدُلُّ على صحةِ هذا المذهبِ أنَّ العربَ تقولُ: " ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ قائماً " ولا يُحْفَظُ عنهم " إلاَّ قائمٍ " بالجرِّ. فلو كانت الجملةُ صفةً بعد " إلاَّ لَسُمِعَ الجرُّ في هذا. [وأيضاً فلو كانَتْ الجملةُ صفةً للنكرة لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفةِ بعد " إلاَّ " يعني نحو: " ما مررتُ بزيدٍ إلاَّ العاقلِ " ].

ثم قال: " فإنْ كانَتِ الصفةُ غيرَ معتمدةٍ على الأداةِ جاءَتِ الصفةُ بعد " إلاَّ " نحو: " ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمروٍ ". التقدير: ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ. وأمَّا كونُ الواوِ تُزاد لتأكيد وَصْلِ الصفةِ بالموصوفِ فغيرُ معهودٍ في عبارةِ النَّحْويين. لو قلتَ: " جاءني رجلٌ وعاقلٌ " أي: " رجلٌ عاقلٌ " لم يَجُزْ. وإنما تدخل الواوُ في الصفاتِ جوازاً إذا عُطِفَ بعضُها على بعضٍ، و تَغَايَرَ مدلُولها نحو: مررت بزيدٍ الشجاعِ والشاعرِ. وأمَّاوَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22] فتقدَّم الكلامُ عليه ".

قلت: أمَّا كونُ الصفةِ لا تقعُ بعد " إلاَّ " معتمدةً، فالزمخشريُّ يختارُ غيرَ هذا، فإنَّها مسألةً خلافيةً. وأمَّا كونُه لم يُقَلْ " إلاَّ قائماً " بالنصبِ دونَ " قائم " بالجرِّ فذلك على أحدِ الجائزين وليس فيه دليلٌ على المَنْعِ مِنْ قَسيمِه. وأمَّا قولُه " فغيرُ معهودٍ من كلامِ النحويين " فمَمنوعٌ. هذا ابنُ جني نَصَّ عليه في بعضِ كتبه. وأمَّا إلزامُه أنها لو كانَتِ الجملةُ صفةً بعد " إلاَّ " للنكرةٍ لجاز أَنْ تقعَ صفةُ المعرفة بعد " إلاَّ " فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ ذلك مختصٌّ بكونِ الصفةِ جملةً. وإذا كانت جملةً تعذَّر كونُها صفةً للمعرفةِ. وإنما اختصَّ ذلك بكونِ الصفةِ جملةً؛ لأنها لتأكيدِ وَصْلِ الصفةِ، والتأكيد لائقٌ بالجملةِ. وأمَّا قولُه: " لو قلتَ: جاءني رجلٌ وعاقلٌ لم يَجُزْ " فمُسَلَّمٌ، ولكن إنما امتنع ذلك في جملةً، فإنَّ اللَّبْسَ مُنْتَفٍ. وقد تقدَّم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } فَلْيُلْتَفَتْ إليه ثَمَّة.