الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً }

قوله: { لِّنُحْيِـيَ بِهِ }: فيه وجهان أظهرُهما: أنَّه متعلقٌ بالإِنزالَ. والثاني: ـ وهو ضعيفٌ ـ أنَّه متعلقٌ بـ " طَهورٍ ". وقال الزمخشري: " فإنْ قلتَ: إنزالُ الماءِ موصوفاً بالطهارة، وتعليلُه بالإِحياءِ والسَّقْيِ يُؤْذِنُ بأنَّ الطهارةَ شرطٌ في صحةِ ذلك كما تقول: " حَمَلني الأميرُ على فَرَس جوادٍ لأَصِيْدَ عليه الوحشَ " ، قلت: لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِنْ جملة ما أُنْزِل له الماءُ وُصِفَ بالطهارة إكراماً لهم وتَتْميماً للمِنَّةِ عليهم ".

و " طَهُور " يجوز أَنْ يكونَ صفةَ مبالغةٍ منقولاً من طاهر, كقوله تعالى:شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21]، وقال:
3486ـ إلى رُجَّح الأَكْفالِ غِيْدٍ من الصِّبا     عِذابِ الثَّنايا رِيْقُهُنَّ طَهُوْرُ
وأَنْ يكونَ اسمَ ما يُتَطَهَّرُ به كالسَّحُور، وأَنْ يكونَ مصدراً كالقَبول والوَلُوع. ووصفُ " بَلْدةً " بـ " مَيْت " وهي صفةٌ للمذكورِ لأنها بمعنى البلد.

قوله: { وَنُسْقِيَهِ } العامَّةُ على ضمِّ النونِ. وقرأ أبو عمرو وعاصم في روايةٍ عنهما وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بفتحها. وقد تقدم أنه قُرىء بذلك في النحل والمؤمنين. وتقدم كلامُ الناسِ عليهما.

قوله: { مِمَّا خَلَقْنَآ } يجوز أن تَتَعلَّقَ بـ " نُسْقيه " ، وهي لابتداء الغاية. ويجوزُ أن تَتَعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِنْ " أنعاماً ". ونُكِّرَتِ الأنعام والأناسيّ: قال الزمخشري: " لأنَّ عليَّةَ الناسِ وجُلَّهم مُنيخون بالأودية والأنهارِ، فبهم غُنْيَةٌ عن سقْي الماء، وأعقابُهم ـ وهم كثيرٌ منهم ـ لا يُعَيِّشهم إلاَّ ما يُنْزِلُ اللهُ مِنْ رحمتِه وسُقْيا سمائِه ".

قوله: { وَأَنَاسِيَّ } فيه وجهان، أحدهما: وهو مذهبُ سيبويه أنَّه جمعُ إنسان. والأصلُ: إنسان وأنَاسين، فَأُبْدِلَتِ النونُ ياءً وأُدْغم فيها الياءُ قبلَها، ونحوَ ظِرْبانِ وظَرابِيّ. والثاني: وهو قولُ الفراء والمبرد والزجَّاج أنه جمع إنْسِيّ. وفيه نظرٌ لأنَّ فَعالِيّ إنما يكونُ جمعاً لِما فيه ياءٌ مشددةٌ لا تدلُّ على نَسَبٍ نحو: كُرْسِيّ وكَرَاسيّ./ فلو أُريد بـ كرسيّ النسبُ لم يَجُزْ جمعُه على كراسيّ. ويَبْعُدُ أَنْ يُقالَ: إن الياءَ في إِنْسِي ليست للنسبِ وكان حقُّه أَنْ يُجْمَعَ علىٰ أَناسِية نحو: مَهالبة في المُهَلَّبي وأَزارِقة في الأَزْرقي.

وقرأ يحيى بن الحارث الذِّماري والكسائي ـ في رواية ـ " وأناسِيَ " بتخفيف الياء. قال الزمخشري: " بحذفِ ياءِ أفاعيل كقولك: أناعِم في أناعِيم ". وقال: " فإنْ قلت لِمَ قَدَّمَ إحياءَ الأرضِ وسَقْيَ الأنعامِ على سَقْي الأناسي. قلت: لأن حياةَ الأناسيِّ بحياةِ أرضِهم وحياةِ أنعامهم، فقدَّم ما هو سببُ حياتِهم، ولأنَّهم إذا ظَفِروا بسُقيْا أرضِهم وسَقْيِ أنعامِهم لم يَعْدِموا سُقْياهم ".