الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }

قوله: { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ }: في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج: " وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين " وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه. وقَدَّره ابنُ عطية: " رجالاً أو رُسُلاً ". والضميرُ في " إنهم " وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ. والثاني: أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا، تقديرُه: إلاَّ مَنْ إنهم، فالضميرُ في " إنهم " وما بعدَه عائدٌ على معنى " مَنْ " المقدرةِ، وإليه ذهب الفراء. وهو مردودٌ: بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ. الثالث: أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ. وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري. قال: التقديرُ: إلاَّ وإنهم، يعني أنَّها حاليةٌ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية. ورُدَّ: بكونِ ما بعدَ " إلاَّ " صفةً لِما قبلَها. وقدَّره أبو البقاء أيضاً.

والعامَّةُ على كسرِ " إنَّ " لوجودِ اللامِ في خبرِها، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ. قال أبو البقاء: " وقيل: لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ، إذ المعنىٰ: إلاَّ وهم [يأْكلون " ]. وقُرِىء " أنهم " بالفتح على زيادةِ اللامِ، و " أَنْ " مصدريةٌ. التقدير: إلاَّ لأنَّهم. أي: ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم.

وقرأ العامَّةُ " يَمْشُوْن " خفيفةً. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله " يُمَشَّوْن " مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. أي: تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ. وقرأ [أبو] عبد الرحمن " يُمَشُّون " بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهي بمعنى " يَمْشُون ". قال الشاعر:
3479ـ ومَشَّىٰ بأعطانِ المَبَأءَةِ وابْتَغَىٰ     قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ
قال الزمخشري: " ولو قُرِىء " يُمَشُّون " لكان أوجهَ، لولا الروايةُ " يعني بالتشديد. قلت: قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد.

قوله: { أَتَصْبِرُونَ } المعادِلُ محذوفٌ أي: أم لا تصبرون. وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ قال الزمخشري: " موقعُها بعد الفتنةِ موقع " أيُّكم " بعد الابتلاءِ في قولهِلِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } [الملك: 2] يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ.