الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

قوله: { بِقِيعَةٍ }: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب. والثاني: أنَّه ظرفٌ. والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه. والسَّرابُ: ما يتراءَىٰ للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ. وقيل: ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان. قال الشاعر:
3449ـ فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ     كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ
يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ./ وقيل: هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري. والقِيْعَةُ: بمعنى القاعِ. وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ. وقد تقدَّم في طه. وقيل: بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة.

وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه: " مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ " قاله صاحب " اللوامح ". والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم: " الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ " أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع. الثالث قال الزمخشري: " وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة " فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً.

وقوله: { يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ } جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في " جاءَه " وفي " لم يَجِدْه " وفي " وَجَد " ، والضمائرُ في " عنده " وفي " وَفَّاه " وفي " حسابه " كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في " جاءه " و " وجد " عائدان على الظمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا ـ وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } ـ حَمْلاً على المعنىٰ، إذِ المعنىٰ: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ.

وقرأ أَبو جعفر ـ ورُوِيَتْ عن نافع ـ " الظَّمان " بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.