الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ }

قوله: { حَتَّىٰ إِذَا }: في " حتى " هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: " بما يَصِفون ". والثاني: أنها غايةٌ لـ " كاذبون ". وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: " حتى تتعلق بـ " يَصِفون " أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ ". ثم قال: " أو على قولِه " وإنهم لكاذِبون ". قلت: قوله: أو على قولِه كذا " كلام محمولٌ على المعنىٰ إذ التقدير " حتى " مُعَلَّقَةٌ على " يَصِفُون " أو على قوله: " لَكاذِبون ". وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة.

الثالث: قال ابنُ عطية: " حتى " في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه ". قال الشيخ: " فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن " حتى " إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ ". وقال أبو البقاء: " حتى " غايةٌ في معنى العطفِ ". وقال الشيخ: " والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون " حتى " غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر:
3424ـ فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني     .........................
أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.

قوله: { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } في قوله " ارْجِعُون " بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر:
3425ـ فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ     وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
وقال آخر:
2326ـ ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ     ...........................
قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال: " إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول: يا رحيمون ". قال: " لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد ". وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.

الثاني: أنه نادىٰ ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله: " ارْجِعُون " ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، فحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ثم قال:أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4] التفاتاً لـ " أهل " المحذوف.

الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله:أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه:
3427ـ قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ     ........................
أي: قِفْ قِفْ.