الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ }

قوله: { وَٱلَّذِي فَطَرَنَا }: فيه وجهان، أحدهما: أن الواوَ عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذا الموصولَ على " ما جاءنا " أي: لن نؤثرَك على الذي جاءنا، ولا على الذي فطرنا. وإنما أخَّروا ذِكْرَ البارِيْ تعالى لأنه من باب الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى. والثاني: أنها واوُ قسمٍ، والموصولُ مقسمٌ به. وجوابُ القسمِ محذوفٌ أي: وحَقِّ الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق. ولا يجوز أن يكونَ الجوابُ " لن نُؤْثرك " عند مَنْ يَجَوِّزُ تقديمَ الجواب؛ لأنه لا يُجاب القسمُ بـ " لن " إلاَّ في شذوذٍ من الكلام.

قوله: { مَآ أَنتَ قَاضٍ } يجوز في " ما " وجهان، أظهرُهما: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، و " أنت قاضٍ " صلتُها والعائدُ محذوفٌ، اي: قاضِيه. وجاز حَذْفُه، وإنْ كان مخفوضاً، لأنه منصوب المحل. أي: فاقضِ الذي أنت قاضِيْه. والثاني: أنها مصدريةٌ ظرفيةٌ، والتقدير: فاقضِ أمرك مدةَ ما أنتَ قاضٍ. ذكر ذلك أبو البقاء. وقد منع بعضُهم ذلك أعني جَعْلَها مصدريةً قال: لأنَّ: " ما " المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية. وهذا المَنْعُ ليس مجمعاً عليه، بل جَوَّز ذلك جماعةٌ كثيرة. ونقل ابنُ مالك أنَّ ذلك يَكْثُر إذا دَلَّتْ " ما " على الظرفية. وأنشد:
3305ـ واصِلْ خليلَك ما التواصُلُ مُمْكِنٌ     فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهِبُ
وَيِقلُّ إنْ كانت غيرَ ظرفية. وأنشد:
3306ـ أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ     كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ
قوله: { إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ } يجوز في " ما " هذه وجهان، أحدهما: أن تكونَ المهيئةَ لدخول " إنَّ " على الفعل و " الحياةَ الدنيا " ظرفٌ لـ " تَقضي " ، ومفعولُه محذوفٌ أي: تقضي غرضَك وأمرَك. ويجوز أن تكونَ " الحياةَ " مفعولاً به على الاتساع، ويدلُّ لذلك قراءةُ أبي حيوة " تُقْضَىٰ هذه الحياةُ " ببناء الفعلِ للمفعول ورَفْعِ " الحياة " لقيامها مقام الفاعلِ؛ وذلك أنه اتُّسِع فيه فقام مقامَ الفاعلِ فرُفِعَ.

والثاني: أن تكونَ " ما " مصدريةً هي اسمُ " إنَّ " ، والخبرُ الظرفُ. والتقدير: إنَّ قضاءَكَ في هذه الحياةِ الدنيا، يعني: إن لك الدنيا فقط، ولنا الآخرةَ.

وقال أبو البقاء: " فإنْ كان قد قُرِيء بالرفع فهو خبرُ إنَّ ". يعني لو قرىء برفعِ " الحياة " لكان خبراً لـ " إنَّ " ويكون اسمُها حينئذٍ " ما " ، وهي موصولةٌ بمعنىٰ الذي، وعائدُها محذوفٌ تقديره: إنَّ تَقْضِيه هذه الحياةُ لا غيرُها.