الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ }

قوله: { أَنِ ٱقْذِفِيهِ }: يجوز أن تكون " أنْ " مفسرةً؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً. ومحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلاً مِنْ " ما يوحَىٰ " والضمائرُ في قوله { أَنِ ٱقْذِفِيهِ } إلى آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه. وجَوَّز بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ } للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام. وعابَه الزمخشريّ وجعله تنافراً أو مُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال: " والضمائر كلُّها راجعة إلىٰ موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم. فإنْ قلت: المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل. قلت: ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر ".

قال الشيخ: " ولقائلٍ أن يقولَ: إن الضمير إذا كان صالحاً لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقربِ راجحاً, وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قولِه { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ } راجحٌ. والجواب: أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَدَّثاً عنه والآخرُ فضلةً، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ. ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْواه: أنَّ الضميرَ في قولِه تعالىٰ:فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [الأنعام: 145] عائدٌ على " خنزير " لا على " لحم " لكونه أقربَ مذكورٍ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه، فإن المحدَّث عنه هو " لحمَ خنزيرٍ " لا خنزير ". قلت: قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها.

قوله: { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ } هذا أمرٌ معناه الخبرُ، ولكنه أمراً لفظاً جُزِم جوابُه في قوله: { يَأْخُذْهُ }. وإنما خَرَجَ بصيغة الأمر مبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها. وقال الزمخشري: " لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيلَ المجاز، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه ".

و " بالساحل " يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي: ملتبساً بالساحل، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل علىٰ أنَّ الباءَ ظرفيةٌ بمعنىٰ " في ".

قوله: { مِّنِّي } فيه وجهان. قال الزمخشري: " لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يتعلقَ بـ " أَلْقَيْتُ " فيكون المعنىٰ: على أني أَحْبَبْتُك، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ لـ " محبةً " أي: محبةً حاصلةً، أو واقعةً مني، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها ".

السابقالتالي
2