الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ }

قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ }: في فاعل " يَهْدِ " أوجهٌ، أحدها: أنه ضميرُ الباري تعالىٰ. ومعنى يَهْدي: يُبَيِّن. ومفعولُ يهدي محذوفٌ تقديرُه: أفلم يُبَيِّنِ اللهُ لهم العبرَ وفِعْلَه بالأمم المكذبة. قال أبو البقاء: " وفي فاعلِه وجهان، أحدهما: ضميرُ اسم الله تعالىٰ، وعَلَّق " بَيَّن " هنا إذا كانَتْ بمعنى اعلمْ، كما عَلَّقه في قولِه تعالى:وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [إبراهيم: 45]. قال الشيخ: و " كم " هنا خبريةٌ ل تعَُلِّق العاملَ عنها ". وقال الزمخشري: " ويجوز أَنْ يكونَ فيه ضميرُ اللهِ أو الرسولِ. ويدلُّ عليه القراءةُ بالنونِ.

الوجه الثاني: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يُفَسِّره ما دَلَّ عليه من الكلام بعدَه. قال الحوفي: " كم أَهْلكنا " قد دَلَّ على هلاك القرونِ. التقدير: أفلم يَتَبَيَّن لهم هلاكُ مَنْ أَهْلكنا من القرن ومَحْوُ آثارِهم فيتَّعِظوا بذلك. وقال أبو البقاء: " الفاعلُ ما دَلَّ عليه قوله: { أَهْلَكْنَا } أي إهلاكنا والجملةُ مفسِّرةٌ له ".

الوجه الثالث: أنَّ الفاعلَ نفسُ الجملة بعده. قال الزمخشري: " فاعلُ " لم يَهْدِ " الجملةُ بعده. يريدُ: ألم يَهْدِ لهم هذا بمعناه ومضمونِه. ونظيرُه قولُه تعالىٰ:وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } [الصافات: 79] أي تَرَكْنا عليه هذا الكلامَ ". قال الشيخ: " وكَوْنَ الجملةِ فاعلَ " يَهْدِ " هو مذهبٌ كوفي. وأمَّا تشبيهُه وتنظيرُه بقولِه: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } فإنَّ " تركْنا " معناه معنى القول، فحُكِيَتْ به الجملةُ كأنه قيل: وقُلْنا عليه وأَطْلقنا عليه هذا اللفظ، والجملةُ تُحْكَىٰ بمعنى القولِ كما تُحْكَى بالقولِ ".

الوجهُ الرابعُ: أنه ضميرُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنه هو المُبَيِّن لهم بما يُوْحَىٰ إليه من أخبار الأممِ السالفةِ والقرونِ الماضية. وهذا الوجهُ تقدَّم نَقْلُه عن أبي القاسم الزمخشري.

الوجهُ الخامسُ: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، قال ابنُ عطية نقلاً عن غيره: " إن الفاعلَ مقدرٌ تقديرُه: الهُدىٰ أو الأمرُ أو النظرُ والاعتبار " قال ابن عطية: " وهذا عندي أحسنُ التقادير ".

قال الشيخ: " وهو قولُ المبردِ، وليس بجيدٍ؛ إذ فيه حَذْفُ الفاعلِ وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينُه أَنْ يقالَ: الفاعل مضمر تقديره: يهد هو أي الهدىٰ " ، قلت: ليس في هذا القولِ أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، بل فيه أنه مقدرٌ، ولفظٌ " مقدرٌ " كثيراً ما يُستعمل في المضمر. وأما مفعولُ " يَهْدِ " ففيه وجهان أحدهما: أنه محذوف. والثاني: أن يكونَ الجملةَ من " كم " وما في حَيِّزها؛ لأنها معلِّقَةٌ له فهي سادَّة مَسَدَّ مفعولِه.

الوجه السادس: أنَّ الفاعلَ " كم " ، قاله الحوفي وأنكره على قائله؛ لأنَّ " كم " استفهامٌ لا يَعْمل فيها ما قبلها.

السابقالتالي
2