الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

قولُه تعالى: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ }.. هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه: واللهِ لَتَجِدَنَّهُم. و " وجَدَ " هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ، والثاني " أَحْرَصَ " ، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ كـ " عَلِمَ " في المعنى نحو:وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [الأعراف: 10]. ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ، وينتصِبُ " أَحْرَصَ " على الحالِ: إمَّا على رَأْي مَنْ لا يشترطُ التنكيرَ في الحال، وإمَّا على رَأْي مَنْ يرى أنَّ إضافةَ " أَفْعَل " إلى معرفةٍ فجاءَتْ على أحدِ الجائِزَيْن، أعني عَدَمَ المطابقةِ، وذلك أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ على نيَّةِ " مِنْ " جازَ فيها وجهان: المطابقةُ لِما قبلَها نحو: الزيدان أَفْضَلا الرجالِ، والزيدون أفاضل الرجال، وهند فُضْلى النساء. والهنودُ فُضْلَياتُ النساءِ، ومنه قولُه: " أكابِرَ مجرميها " ، وعدمُها نحو: الزيدون أَفْضَلُ الرجالِ، وعليه هذه الآيةُ، وكلا الوجهين فصيحٌ، خلافاً لابن السراج حيث ادَّعى تعيُّنَ الإفرادِ، ولأبي منصور الجواليقي حيث زَعَم أنَّ المطابقةَ أفصحُ. وإذا أُضيفت لمعرفةٍ لَزِمَ أن تكونَ بعضَها، ولذلك مَنَع النحْويون: " يوسُف أَحْسَنُ إخوته " على معنى التفضيلِ، وتأوَّلوا ما يُوهِمُ غيرَه نحو: " الناقصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان " بمعنى العادِلان فيهم، وأمَّا:
620 ـ يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ   فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ، وسَوَّغَ ذلك / كَوْنُ " أَظْلَمَ " الثاني مقحماً كأنه قال: " أَظْلَمُنا ". وأمَّا إذا أُضيفَ لنكرةِ فقد سَبَقَ حكمُها عند قولِه: " أوَّل كافر ".

قوله: { عَلَىٰ حَيَاةٍ } متعلِّق بـ " أَحْرَصَ " ، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى بـ " على " ، تقول: حَرَصْتُ عليه. والتنكيرُ في " حياة " تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ " على الحياة " بالتعريفِ. وقيل: إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: على طُولِ حياةٍ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ، بل يكونُ المعنى: أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ. وإنْ قُلْتَ: فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك. وأصلُ حياة: حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً.

قولُه: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حُمِل على المعنى، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس: أَحْرَصَ من الناسِ، فكأنه قيل: أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا. الثاني: أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، والتقديرُ: وأحرصَ من الذين أشركوا، وعلى ما تقرَّر من كونِ { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر " مِنْ " لأنَّ " أَحرصَ " جَرى على اليهودِ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ " مِنْ " لكانَ معطوفاً على الناس، فيكونُ في المعنى: ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون الأصنامَ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ إنه يَغْتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائلِ، فحينئذٍ لو لم يُؤْتَ بمِنْ لكان جائزاً.

السابقالتالي
2 3 4 5