الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ }: يجوزُ في هذه الجملةِ وجهانِ، أحدُهما: أَنْ تكونَ استئنافيةً استؤنِفَتْ للإِخبارِ بأنَّهم يكفرُون بما عدا التوراةَ فلا محلَّ لها من الإِعراب. والثاني أن تكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يكفرون، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها " قالوا " أي قالوا: نؤمنُ حالَ كونِهم كافرين بكذا، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيها " نؤمن " ، قال أبو البقاء: " إذ لو كان كذلك لكان لفظُ الحال ونكفر أو ونحن نكفر " يعني فكان يجبُ المطابَقةُ. ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لِما تقدَّم من أن المضارعَ المُثْبَتَ لا يقترن بالواوِ وهو نظيرُ قوله:
613ـ.................................   نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا
وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه: { بِمَا أَنْزَلَ } وأُقيم المفعولُ مُقامَه للعلم به، إذ لا يُنَزِّلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه: { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }.

قوله: { بِمَا وَرَآءَهُ } متعلَّق بيَكْفرون، وما موصولةٌ، والظرفُ صلتُها، فمتعلَّقه فعلٌ ليس إلا. والهاءُ في " وراءه " تعودُ على " ما " في قوله: { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ }. ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ، وهو ظرفُ مكانٍ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام، فهو من الأَضْداد، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى " سِوَى " التي بمعنى " غَيْر " ، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى " بعد ". وفي همزه قولان، أحدُهما: أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم: وُرَيْئَة. والثاني: أنها من ياء لقولهم: تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ. ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤُه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو " واو " اسمِ حَرْفِ الهجاء، وحكمُه حكمُ قبلُ وبعدُ في كونِه إذا أُضيف أُعْرِبَ، وإذا قُطِعَ بُني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر:
614ـ إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يَكُنْ   لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وراءُ
وفي الحديثِ عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " كنتُ خليلاً مِنْ وراءُ وراءُ " ، وثبوتُ الهاء في مصغَّرِها شاذٌ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تَثْبُتُ الهاءُ في مصغَّره إلا في لفظتين شَذَّتا وهما: وُرَيْئَة وقُدَيْدِيمة: تصغير: وراء وقُدَّام. قال ابن عصفور: " لأنَّهما لم يتصرَّفا فلو لم يُؤَنَّثا في التصغير لَتُوُهِّمَ تذكيرهُما ".

قوله: { وَهُوَ ٱلْحَقُّ } مبتدأٌ وخبر، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه: " ويَكفرون " وصاحبُها فاعلُ يكفرون. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العاملُ الاستقرارَ الذي في قولِه { بِمَا وَرَآءَهُ } أي: بالذي استقر وراءَه وهو الحقُّ.

قوله: { مُصَدِّقاً } حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه { وَهُوَ ٱلْحَقُّ } قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ: إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو:

السابقالتالي
2