الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }

قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ }: هذه الجملةُ الفعلية يُحْتمل أن تكونَ مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر، وهو: ما بالُهم قالوا آمنَّا وما هم بمؤمنين؟ فقيل: يُخادعون اللهَ، ويحتمل أن تكونَ بدلاً من الجملةِ الواقعة صلةً لـ " مَنْ " وهي " يقولُ " ، ويكون هذا من بدلِ الاشتمال، لأنَّ قولَهم كذا مشتملٌ على الخِداع فهو نظيرُ قوله:
172ـ إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا   تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا
وقول الآخر:
173ـ متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا   تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا
فـ " تُؤْخَذَ " بدلُ اشتمالٍ من " تُبايع " وكذا " تُلْمم " بدلٌ من " تأتِنا " ، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. والجملُ التي لا محلَّ لها من الإِعراب أربعٌ لا تزيد على ذلك -وإن تَوَهَّم بعضُهم ذلك- وهي: المبتدأ والصلة والمعترضة والمفسِّرة، وسيأتي تفصيلُها في مواضعها. ويُحْتمَل أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير المستكنِّ في " يقول " تقديرُه: ومن الناسِ مَنْ يقول حالَ كونِهم مخادِعين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في " بمؤمنين " والعاملُ فيها اسمُ الفاعل. وقد رَدَّ عليه بعضُهم بما معناه: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نظيرُ: ما زيدٌ أقبل ضاحكاً، قال: " وللعربِ في مثل هذا التركيبِ طريقان، أحدُهما: نفيُ القيدِ وحدَه وإثباتُ أصلِ الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى أنَّ الإِقبالَ ثابتٌ والضحكَ منتفٍ، وهذا المعنى لا يُتَصَوَّرُ إرادتُه في الآية، أعني نفيَ الخِداع، وثبوتَ الإِيمان. الطريقُ الثاني: أن ينتفيَ القيدُ فينتفيَ العاملُ فيه فكأنه قيل في المثال السابق: لم يُقْبِلْ ولم يَضْحَكْ، وهذا المعنى أيضاً غيرُ مرادٍ بالآية الكريمة قَطْعاً، أعني نفيَ الإِيمان والخداعِ معاً، بل المعنى على نفي الإِيمان وثبوتِ الخداع، ففَسَد جَعْلُها حالاً من الضميرِ في " بمؤمنين ". والعجبُ من أبي البقاء كيف استشعر هذا الإِشكال فمنعَ مِنْ جَعْلِ هذه الجملةِ في محلِّ الجرِّ صفة لمؤمنين؟ قال: " لأنَّ ذلك يوجبُ نَفْيَ خداعِهِم، والمعنى على إثباتِ الخداعِ " ، ثم جَعَلَها حالاً مِنْ ضمير " مؤمنين " ولا فرقَ بين الحالِ والصفةِ في هذا.

والخِداعُ أصلُه الإِخفاء، ومنه الأَخْدَعان: عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت، فمعنى خادع أي: مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر:
174ـ أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ   طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ
أي: فَسَد. والمصدر الخِدْعُ بكسر الخاء، ومثله: الخَدِيعة. ومعنى يخادعون الله أيْ مِنْ حيث الصورةُ لا مِنْ حيث المعنى، وقيل: لعدم عرفانِهم بالله تعالى وصفاته ظنُّوه مِمَّنْ يخادَعُ. وقال أبو القاسم الزمخشري/: " إنَّ اسمَ الله تعالى مُقْحَمٌ، والمعنى: يُخادِعون الذين آمنوا، ويكون من باب " أعجبني زيدٌ وكرمُه ".

السابقالتالي
2 3