الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }

قوله تعالى: { قُلُوبُنَا غُلْفٌ }.. مبتدأٌ وخبر، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه، وقرأ الجمهورُ: " غُلْفٌ " بسكون اللام، وفيها وجهان، أحدهما ـ وهو الأظهرُ ـ: أن يكونَ جمع " أَغْلَف " كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر، والمعنى على هذا: أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ. والثاني: أن يكونَ جمعَ " غِلاف " ، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو: حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنُق، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية: " لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ " ، وليس كذلك، بل هو قليل، وقد نصّ غيرُه على جوازه، وقرأ ابن عباس ـ ويُروى عن أبي عمرو ـ بضمِّ اللامِ وهو جمع " غِلاف " ، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ " أَغْلف " لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى.

قوله: { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ } " بل " حرفُ إضرابٍ، والإِضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق. والإِضرابُ على قسمين: إبطالٍ وانتقالٍ، فالأول نحو: ما قام زيدٌ بل عمروٌ، ولا تَعْطِفُ " بل " إلا المفردات، وتكونُ في الإِيجاب والنفي والنهي، ويُزاد قبلها " لا " تأكيداً. واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والبُعْدُ، ومنه: شَأْوٌ لعين أي بعيد: قال الشمَّاخ.
607ـ ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه   مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي: البعيد، وكان وجهُ الكلام أن يقول: " مقام الذئب اللعين كالرجل ". والباءُ في " بكفرهم " للسببِ، وهي متعلِّقَةٌ بلَعَنَهُمْ. وقال الفارسي: " النية به التقديمُ أي: وقالوا: قُلوبنا غلفٌ بسببِ كفرهم، فتكونُ الباءُ متعلقةً بقالوا وتكونُ " بل لعنهم " جملةً معترضةً " ، وفيه بُعْدٌ، ويجوز أن تكونَ حالاً من المفعولِ في " لَعَنهم " أي لعَنهم كافرين أي: مُلتبسين بالكفرِ كقوله:وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ } [المائدة: 61].

قوله: { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } في نصبِ " قليلاً " ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو الأظهرُ: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: فإيماناً قليلاً يُؤمنون. الثاني: أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي: فيؤمنونه أي الإِيمانَ في حالِ قلَّته، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره. الثالث: أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله:آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ } [آل عمران: 72]. الرابع: أنه على إسقاطِ الخافض والأصل: فبقليل يؤمنون، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب، ويُعْزَى لأبي عبيدة.

السابقالتالي
2