الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }

قوله تعالى: { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ }.. التضعيفُ في " قَفَّيْنا " ليس للتعديةِ، إذ لو كانَ كذلك لتعدَّى إلى اثنينِ لأنه قبلَ التضعيفِ يتعدَّى لواحدٍ، نحو: قَفَوْت زيداً، ولكنه ضُمِّن معنى " جِئْنا " كأنه قيل: وجئنا من بعده بالرسلِ. فإنْ قيل: يجوزُ أن يكونَ متعدِّياً لاثنين على معنى أنَّ الأولَ محذوفٌ والثاني " بالرسل " والباءُ فيه زائدةٌ تقريرُه: { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ }.

فالجوابُ أن كثرةَ مجيئِه في القرآن كذلك يُبْعِدُ هذا التقديرَ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ في المائدةِ إن شاء الله تعالى.

وقَفَّينا أصله: قَفَّوْنا، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً، واشتقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه، ثم اتُّسع فيه، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع، وقال أمية:
601ـ قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ   وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ
والقَفا مُؤَخَّرُ العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه قافيةُ الشِّعْر، لأنها تَتلُو بناءَ الكلام وآخرَه، ومعنى قَفَّيْنا أي: أَتْبَعْنا كقولِه:ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [المؤمنون: 44].

و { مِن بَعْدِهِ } متعلِّقٌ به، وكذلك " بالرُسل " ، وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غيرُ مَقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن، والضمُّ لغةُ تميم، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى " نا " أو " كم " أو " هم " فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ.

قوله: " عيسى " عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضع، فقال سيبويه: " وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى " يَعْني بالياءِ الألفَ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ. وقال الفارسي: " أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرةِ ". وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي: " وزنه فِعْلَل " فالألفُ عنده أصليةٌ بمعنى أنها منقلبةٌ عن أصل. ورَدَّ ذلك عليه ابنُ الباذِشِ بأنَّ الياءَ والواوَ لا يكونان أصلَيْن في بناتِ الأربعةِ، فمَنْ قال إنَّ " عِيسى " مشتقٌّ من العَيْس وهو بياضٌ تخالطُه شُقْرةٌ كأبي البقاء وغيره ليس بمصيبٍ لأنَّ الأعجميَّ لا يَدْخُلُه اشتقاقٌُ ولا تصريفٌ. وقال الزمخشري: " وقيل: عيسى بالسُّريانية: أَيْسوع ".

قوله: " ابنَ مريم " عطفُ بيان أو بدلٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ " ابن مريم " جرىٰ مَجْرَى العلم له. وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى، وتقدَّم اشتقاقُ " ابن " وأصلُه.

ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم ينصرِفْ، وفي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِرُ مخالطَة الرجال كالزِّير من الرجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ، قال رؤبة:

السابقالتالي
2 3 4