الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

قوله تعالى: { بَلَىٰ }.. حَرْفُ جوابٍ كنَعَم وجَيْرِ وأَجَلْ وإي، إلاَّ أَنَّ " بلى " جوابٌ لنفي متقدِّمٍ، سواءً دخلَه استفهامٌ أم لا، فيكونُ إيجاباً له نحو قول القائلِ: ما قام زيدٌ فتقولُ: بلى، قد قام، وتقول: أليس زيداً قائماً؟ فتقول بلىٰ، أي: هو قائم، قال تعالى:أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] ويُروى عن ابن عباس أنهم لو قالوا: نَعَمْ لَكَفروا. فأمَّا قولُه:
567ـ أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ   وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي
نَعَمْ وَتَرىٰ الهلالَ كما أَراه   وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني
فقيل: ضرورةٌ، وقيل: نَظَرَ إلى المعنى؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دَخَل على النفي قَرَّره، وبهذا يُقال: فكيفَ نُقِل عن ابنِ عباس أنَّهم لو قالوا نعم لكَفروا، مع أنَّ النفي صَار إيجاباً؟ وقيل: قَوْلُه: " نعم " ليس جواباً لـ " أليس " إنما هو جوابٌ لقولِه: " فذاكَ بنا تَداني " فقوله تعالى: " بلى " رَدٌّ لقولِهم: { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } أي: بلى تَمَسُّكم أبداً، بدليلِ قولِه: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قاله الزمخشري، يريد أن " أبداً " في مقابَلَةِ قولهم: { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } وهو تقديرٌ حَسَنٌ. والبصريون يَقُولون: إنَّ " بلىٰ " حرفٌ بسيطٌ. وزعم الكوفيون أنَّ أصلها بل التي للإِضراب، زِيْدَتْ عليها الياء ليَحْسُنَ الوقف عليها، وضُمِّنت الياء معنى الإِيجاب، قيل: تَدُلُّ على رَدِّ النفي والياءُ تَدُلُّ على الإِيجابِ، يَعْنُون بالياءِ الألفَ، وإنما سَمَّوْها ياءً لأنَّها تُمال وتُكْتَبُ بالياءِ، ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ غيرُ هذا، وسيأتي الكلامُ إن شاء الله في بقيةِ حروفِ الجواب.

قولُه: { مَن كَسَبَ } يجوزُ " مَنْ " وجهان، أحدُهما: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والخبرُ قولُه: " فأولئك " ، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ الشروطِ المذكورةِ فيما تقدَّم. ويؤيِّد كونَها موصوفةً ذِكْرُ قَسيمِها موصولاً وهو قولُه: { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ } ، ويجوزُ أن تكونَ شرطيةً، والجوابُ قولُه " فأولئك " وعلى كِلا القولين فمَحَلُّها الرفعُ بالابتداء، لكنْ إذا قلنا إنها موصولةٌ كان الخبر: " فأولئك " وما بعد بلا خلافٍ، ولا يكونُ لقولِه { كَسَبَ سَيِّئَةً } وما عُطِفَ عليه مَحَلٌّ من الإِعرابِ لوقوعِه صلةً، وإذا قلنا إنها شرطيةٌ فيجيء في خبرها الخلافُ المشهورُ: إمَّا الشرطُ أو الجزاءُ أو هما، حَسْبما تقدَّم، ويكونُ قولُه " كَسَب " وما عُطِفَ عليه في محلِّ جَزْمٍ بالشرط.

و " سَيِّئَةً " مفعولٌ به، وأصلُها: سَيْوِئةَ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء، فوزنُها فَيْعِلة، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيّد وميّت، وقد تقدَّم. وراعى لفظ " مَنْ " مرةً فأفرَدَ في قوله " كسب " ، و " به " و " خطيئته " ، والمعنى مرةًً أخرى، فَجَمَع في قوله: { فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.

السابقالتالي
2