الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ }.. الآية { مِنَ ٱلنَّاسِ } خبر مقدم و " من يقول " مبتدأ مؤخر، و " مَنْ " تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً أي: الذي يقول أو فريقٌ يقول: فالجملةُ على الأول لا محلَّ لها لكونِها صلةً، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ لكونها صفةً للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تكونَ موصولةً، قال: لأن " الذي " يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإِبهام " انتهى. وهذا منه غيرُ مُسَلَّم لأن المنقولَ أن الآية نَزَلَت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أُبَيّ ورهطِه. وقال الأستاذ الزمخشري: " إن كانَتْ أل للجنس كانت " مَنْ " نكرةً موصوفة كقوله:مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ } [الأحزاب: 23]، وإن كانَتْ للعهد كانت موصولةً " ، وكأنه قَصَد مناسبةَ الجنسِ للجنسِ والعهدِ للعهد، إلاَّ أن هذا الذي قاله غيرُ لازم، بل يجوز أن تكونَ أل للجنسِ وتكونَ " مَنْ " موصولةً، وللعهدِ ومَنْ نكرةً موصوفةً/. وزعم الكسائي أنها لا تكون إلا في موضعٍ تختص به النكرةُ، كقوله:
158ـ رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه   قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر: إلا أنها قد جاءت في موضعٍ لا تختصُّ به النكرة، قال:
159ـ فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا   ............................
و " مَنْ " تكون موصولةً ونكرةً موصوفةً كما تقدَّم وشرطيةً واستفهاميةً، وهل تقع نكرةً غيرَ موصوفةٍ أو زائدةً؟ خلافٌ، واستدلَّ الكسائي على زيادتها بقولِ عنترة:
160ـ يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له   حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ
ولا دليلَ فيه لجوازِ أن تكونَ موصوفةً بقَنَص: إمَّا على المبالغة أو على حذف مضاف.

و " مِنْ " في " مِنَ الناس " للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها. و " الناس " اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه، ويرادفُهُ " أناسِيٌّ " جمع إنسان أو إِنْسِيّ، وهو حقيقةٌ في الآدميين، ويُطْلق على الجن مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهبُ سيبويه والفراء أنَّ أصلَه همزةٌ ونون وسين والأصل: أناس اشتقاقاً من الأنس، قال:
161ـ وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه   ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ
لأنه أَنِس بحواء، وقيل: بل أَنس بربه، ثم حُذفت الهمزة تخفيفاً، يدلُّ على ذلك قوله:
162ـ إنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ   ـنَ على الأُناس الآمنينا
وقال آخر:
163ـ وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ   ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ
وقال آخر:
164ـ وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم   دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والأصلُ: نَوَسَ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، والنَّوْس والحركةُ. وذهب بعضُهم إلى أنه من نون وسين وياء، والأصل: نَسِي، ثم قُلِبَتْ اللامُ إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قُلبت الياء ألفاً لما تقدم في نوس، قال: سُمُّوا بذلك لنِسْيانهم ومنه الإِنسان لنسيانه، قال:

السابقالتالي
2 3