الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }

قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ }.. " منهم " خبرٌ مقدَّمٌ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و " أمِّيُّون " مبتدأٌ مؤخر، ويجوزُ على رأي الأخفشِ أن يكونَ فاعلاً بالظرف قبلَه وإنْ لم يَعتمدْ، وقد بَيَّنْتُ على ماذا يعتمد فيما تقدَّم. " وأمِّيُّون جمع أُمّيّ وهو مَنْ لا يكتب ولا يقرأ، واختُلف في نسبته، فقيل: إلى الأُم وفيه معنيان: أحدُهما: أنه بحال أمِّه التي وَلَدَتْه مِنْ عَدَمِ معرفةِ الكتابة وليس مثلَ أبيه، لأن النساءَ ليس منْ شُغْلِهِنَّ الكتابةُ. والثاني: أنَّه بحاله التي وَلَدَتْهُ أمُّه عليها لم يتغيَّرْ عنها ولم يَنْتَقِلْ. وقيل: نُسِبَ إلى الأُمَّة وهي القامَةُ والخِلْقَةُ، بمعنى أنه ليس له من الناسِ إلا ذلك. وقيل: نسب إلى الأُمَّة على سَذاجَتِها قبل أن تَعْرِفَ الأشياء كقولهم: عامِّي أي: على عادة العامَّة. وعن ابن عباس: " قيل لهم أمِّيُّون لأنهم لم يُصَدِّقوا بأم الكتاب " وقال أبو عبيدة: " قيل لهم أُمِّيُّون لإِنزالِ الكتابِ عليهم كأنهم نُسبوا لأُمِّ الكتاب ".

وقرأ ابن أبي عبلة: " أُمِّيُون " بتخفيف الياء، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ تضعيفين.

قوله: { لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ صفةً لأمِّيُّونُ، كأنه قيل: أُمِّيُّون غيرُ عالمين.

قوله: { إِلاَّ أَمَانِيَّ } هذا استثناءٌ منقطعُ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ الكتابِ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه، وهذا هو المنقطعُ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ دخولُه بوجهٍ ما كقولِه:مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } [النساء: 157]/ وقولِ النابغة:
556ـ حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ   ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ
لأنَّ بِذِكْرِ العلم استُحْضِرَ الظنُّ، ولهذا لا يَجُوز: صَهَلَت الخيلُ إلا حماراً.

واعلمْ أنَّ المنقطعَ على ضَرْبَيْن: ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو: " جاء القومُ إلا حماراً " وضربٍ لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون: " ما زاد إلا ما نَقَصَ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ " فالأول فيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِبْهِهِ النصبُ والإِتباعُ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول، فيَحْتملُ نصبُها وجهين، أَحَدُهُما: على الاستثناء المنقطع، والثاني: أنه بدلٌ من الكتاب، و " إلا " في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين بـ " لكن " وعند الكوفيين بـ " بل ". وظاهرُ كلام أبي البقاء أن نَصْبَه على المصدرِ بفعلِ محذوفٍ، فإنَّه قال: { إِلاَّ أَمَانِيَّ } استثناء منقطع، لأنَّ الأمانيَّ ليس من جنسِ العلم، وتقديرُ " إلاَّ " في مثلِ هذا بـ " لكنْ " ، أي: لكنْ يتَمنَّونه أمانيَّ، فيكونُ عندَه من بابِ الاستثناء المفَرَّغِ المنقطعِ، فيصيرُ نظيرَ: " ما علمتُ إلا ظناً " وفيه نظرٌ.

والأمانيُّ جمع أُمْنِيَّة بتشديد الياء فيهما.

السابقالتالي
2