الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }

قوله تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }.. الآية { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }: متعلّق بخَتَم، و " على سمعهم " يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك، أعني نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى:وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ } [الجاثية: 23] ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه، و " غِشَاوة " مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ عليها جاز الابتداء بها، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء بالنكرة، والآيةُ من هذا القبيل، وهذا بخلافِ قوله تعالى:وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [الأنعام: 2] لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف على " سمعهم " ويُبتدأ بما بعده وهو " وعلى أبصارهم غشاوةٌ " فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على " قلوبهم " ، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو " على " ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك بتغايرِ الختمين، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ. وقد فرَّق النحويون بين: " مررت بزيد وعمرو " وبين: " مررت بزيد وبعمرو " ، فقالوا: في الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران، وهو يؤيِّد ما قلته، إلاَّ أن التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإِعرابين، أعني جَعْلَ " وعلى سَمْعِهم " معطوفاً على قوله " على قلوبهم " وجَعْلَه خبراً مقدماً، وأمَّا التعليلُ بتغاير الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرُ الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمين.

وقُرئ: " غِشاوةً " نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، الأولُ: على إضمار فعلٍ لائق، أي: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى:وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية: 23]. والثاني: الانتصابُ على إِسقاط حرف الجر، ويكون " وعلى أبصارهم " معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب ما بعده كقوله:
148ـ تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا   كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ
أي تمرون بالديارِ، ولكنه غيرُ مقيسٍ. والثالث: أن يكونَ " غِشاوةً " اسماً وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى، لأنَّ الخَتْمَ والتَغْشيَة يشتركانِ في معنى السَِّتر، فكأنه قيل: " وخَتَم تغشيةً " على سبيل التأكيد، فهو من باب " قَعَدْتُ جلوساً " وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها مُغَشَّاةً.

وقال الفارسي: " قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ: إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه " خَتَم " تقديره: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، فيجيء الكلامُ من باب:

السابقالتالي
2 3