الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

قوله تعالى: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ }: ناصبٌ ومنصوبٌ، والجملةُ في محلَّ نصبٍ بالقولِ، وقد تقدَّم الكلامُ على " لن " ، وقولُه " طعام واحد " وإنما كانا طعامين وهما المَنُّ والسَّلْوى؛ لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يتبدَّل، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ، أو لأنهما ضَرْبٌ واحدُ لأنهما من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف، ونحن أهلُ زراعاتٍ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه من الأشياءِ المتفاوتةِ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ، وقيل: كَنَوْا بذلك عن الغِنَى، فكأنهم قالوا: لن نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك كانوا، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ.

والطعامُ: اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ، ومنهوَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [البقرة: 249] وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر، وفي حديث الصدقة: " أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير " ، والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ، تقول: طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل، قال أبو خراش:
496ـ أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه   وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي   إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ
أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى منه، وقد يُعَبَّر به عن الإِعطاءِ، قال عليه السلام: " إذا اسْتَطْعَمَكم الإِمامُ فأطْعِموه " أي: إذا استفتح فافتحُوا عليه، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً، قال:
497ـ نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو   دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما
قوله: { فَٱدْعُ } اللغةُ الفصيحةُ " ادعُ " بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو، ولغة بني عامر: فادْعِ بكسر العين، قالَ أبو البقاء: " لالتقاءِ الساكنين، يُجْرُون المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ، ولا يُراعونَ المحذوفَ " يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل الأمرِ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ، فكُسِرت العينُ، وفيه نظرٌ، لأن القاعدةَ في هذا ونحوه أنْ يُكْسَرَ الأولُ من الساكنين لا الثاني، فيجوزُ أن يكونَ [مِنْ لغتهم] دَعَى يَدْعي مثل رَمى يَرْمي. والدعاءُ هنا السؤالُ، ويكونُ بمعنى التسمية كقوله:
498ـ دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ......   .................................
وقد تقدَّم، و " لنا " متعلِّق به، واللام للعلَّة.

قوله " يُخْرِجْ " مجزومٌ في جوابِ الأمر، وقال بعضُهم: " مجزومٌ بلام الأمرِ مقدرةً، أي: لِيُخْرِجْ، وضَعَّفه الزجاج، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ الأمرِ إن شاء الله تعالى.

قوله: { مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } مفعولُ " يُخْرِجْ " محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه: مأكولاً [مِمَّا] ـ أو شيئاً مِمَّا ـ تُنبت الأرضُ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وتكونُ " مِنْ " لابتداءِ الغاية، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي: مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و " مِنْ " للتبعيضِ، ومذهبُ الأخفش أنَّ " مِنْ " زائدةٌ في المفعول، والتقديرُ: يُخْرِجْ ما تُنْبِتُه الأرضُ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7