الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }

قوله تعالى: { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ }: لا بُدَّ في هذا الكلام من تأويلٍ، إذ الذَمُّ إنما يتوجَّهُ عليهم إذا بَدَّلوا القولَ الذي قيل لهم، لا إذَا بَدَّلوا قولاً غيره، فقيل: تقديرُه: فبدَّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم [قولاً غيرَ الذي قِيل لهم] فـ " بَدَّلَ " يتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ بنفسِه وإلى آخر بالباءِ، والمجرورُ بها هو المتروكُ والمنصوبُ هو الموجودُ كقولِ أبي النجم:
487ـ وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ   هَيْفاً دَبُوراً بالصَّيا والشَّمْأَلِ
فالمقطوعُ عنها الصَّبا والحاصلُ لها الهَيْفُ، قالَه أبو البقاء. وقال: " يجوز أن يكونَ " بَدَّل مَحْمولاً على المعنى تقديره: فقال الذين ظلموا قولاً غيرَ الذي قيلَ لهم، لأنَّ تبديلَ القولِ بقولٍ فنصْبُ " غير " عنده في هذين القولَيْن على النعت لـ " قولاً " وقيل: تقديرُه: فَبَدَّل الذينَ ظلموا قولاً بغيرٍ الذي، فَحَذَفَ الحرفَ فانتصَبَ، ومعنى التبديلِ التغييرُ كأنه قيل: فغيَّروا قولاً بغيره، أي جاؤوا بقولٍ آخرَ مكانَ القولِ الذي أُمِروا به، كما يُرْوى في القصة أنَّهم قالوا بَدَلَ " حِطَّة " حِنْطة في شُعَيْرة.

والإِبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ، وقد يُقال التبديل: التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة العين، إلا أنه قُرئ:عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا } [القلم: 32]فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [الكهف: 81] بالوجهين، وهذا يَقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما]، والبديلُ، والبدل بمعنى واحدٍ، وبَدَّله غيرُه. ويُقال: بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل ونَكَل، قال أبو عبيدة: " لم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ ".

قوله: { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ متعلِّقاً بأَنْزلنا، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ، أيْ: من جهةِ السماء، وهذا الوجهُ] هو الظاهرُ. والثاني أن يكونَ صفةً لـ " رِجْزاً " ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و " مِنْ " أيضاً لابتداءِ الغايةِ. وقولُه: { عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } فأعادَهم بذِكْرِهم أولاً، ولم يَقُلْ " عليهم " تنبيهاً على أنَّ ظُلْمَهُم سببٌ في عقابِهم، وهو من إيقاعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المُضْمر لهذا الغرض. وإيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ على ضَرْبَيْنِ: ضربٍ يقعُ بعد تمامِ الكلامِ كهذهِ الآيةِ، وقول الخَنْساء:
488ـ تَعَرَّقَنِي الدَّهرُ نَهْساً وحَزَّاً   وأَوْجَعَني الدَّهْرُ قَرْعاً وغَمْزَا
أي: أصابَتْني نوائبُه جُمَعُ، وضربٍ يقعُ في كلامٍ واحد نحو قوله:ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَآقَّةُ } [الحاقة: 1-2] وقوِل الآخر:
489ـ ليتَ الغُرابَ غداةَ يَنْعَبُ دائِباً   كان الغرابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ
وقد جمع عديٌّ بنُ زيدٍ بين المعنيين فقال:
490ـ لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ   نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا
وجاء في سورة الأعراففَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [الأعراف: 133] فجاء هنا بلفظ الإِرسالِ، وبالمضمرِ دونَ الظاهرِ، وذلك أنه تعالى عَدَّد عليهم في هذه السورة نِعَماً جَسيمةً كثيرةً فكانَ توجيهُ الذمِّ عليهم وتوبيخُهم بكُفرانِها أَبَلَغَ مِنْ ثَمَّ، حيث إنه لم يُعَدِّدْ عليهم هناك ما عَدَّد هنا، ولفظُ الإِنزالِ للعذابِ أبلغُ من لفظِ الإِرسالِ.

السابقالتالي
2