الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قوله تعالى: { هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ }: هذه: منصوبةٌ عند سيبويه على الظرف وعند الأخفشِ على المفعولِ به، وذك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا بـ " في " تقول: صَلَّيْتُ في البيتِ، ولا تقولُ: صَلَّيْتُ البيتَ؛ إلا ما اسْتُثْني. ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي " دَخَلَ " مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ، نحو: دَخَلْتُ البيتَ والسوقَ، وهذا مذهبُ سيبويهِ. وقال الأخفشُ: " الواقعُ بعد " دَخَلْتُ " مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِك: " هَدَمْتُ البيتَ " فلو جاء " دَخَلَ " مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى [بفي، نحو: دَخَلْتُ في الأمر، ولا تقولُ: دَخَلْتُ الأمرَ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ " دَخَلَ " تَعَدَّى] بـ " في " إلا ما شَذَّ كقولِه:
481ـ جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه   رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
و " القريةَ " نعتٌ لـ " هذه " ، أو عطفُ بيانٍ كما تقدَّم، والقريةُ مشتقةٌ من قَرَيْتُ أي: جَمَعْتُ: تقولُ: قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ، أي: جَمَعْتُه، واسمُ ذلك الماء: قِرَىً بكسر القاف. والمِقْراةُ: الجَفْنَةُ العظيمةُ، وجمعُها مَقارٍ، قال:
482ـ عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ   ..................................
والقَرْيان: اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الذي يَجْتمع فيه القومُ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً، وقوله تعالى: " واسألِ القريةَ " يَحْتَمِلُ الوَجْهين. وقال الراغبُ: " إنها اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً، ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما ".

قولُه تعالى: { ٱلْبَابَ سُجَّداً } " سُجَّدا " حالٌ من فاعلِ " ادْخُلوا " ، وهو جمع ساجدِ. قال أبو البقاء: " وهو أَبْلَغُ من السجود " يعني أنَّ جَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول، وفيه نَظَرٌ. وأصلُ " باب ": بَوَب لقولهم أَبْواب، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِية لازدواجِ الكلامِ، قال الشاعر:
483ـ هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ   يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ والِّلْينا
قوله:حِطَّة " قُرِئ بالرفع والنصب، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: مسألتُنا حِطَّة أو أمرُك حِطَّة، قال الزمخشري: والأصلُ النصبُ، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطَّةً، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ [معنى] الثباتِ، كقوله:
484ـ شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى   صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى
والأصلُ: صَبْراً عليَّ، اصبرْ صبراً " ، فَجَعَلَه من بابِسَلاَمٌ عَلَيْكُم } [الرعد: 24]، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقال ابنُ عطية: " وقيل: أُمِروا أن يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ " يعني على الحكايةِ، فعلى هذا تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول، وإنما مَنَعَ النصبَ حركةُ الحكايةِ. وقال أيضاً: " وقال عكرمة: أُمِروا أن يقولوا لا إله إلا اللهُ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم " وحكى قَوْلَيْن آخرين بمعناه، ثم قال: " فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو: قُلْ لزيد خيراً، المعنى: قل له ما هو من جنس الخُيور.

السابقالتالي
2 3