الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ }

قوله تعالى: { وَاعَدْنَا }. قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً، وقرأه الباقون: " واعَدنْا " بألف. واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْد والوعيد، على هذا وجَدْنَا القرآن، نحو:وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ } [النور: 55]وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ } [الفتح: 20]وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ } [إبراهيم: 22]وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ } [الأنفال: 7]، وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً: " وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من اللهِ لموسى، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص " ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها. وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً: " قراءةُ العامَّة عندَنا: وَعَدْنا ـ بغيرِ ألفٍ ـ لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين ". وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه. وقال مكي: " المواعدة أصلُها من اثنين، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو: طارَقْتُ النَّعْلَ " ، فجعل القراءتين بمعنىً واحد، والأولُ أحسنُ. ورجَّح قوم " واعدنا ". وقال الكسائي: " وليس قولُ الله:وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [النور: 55] من هذا البابِ في شيء؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ الموافاة، وليس من الوَعْد في شيء، وإنما هو من قولك: مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا، والفصيحُ في هذا " واعَدْنا ". وقال الزجاج: " واعَدْنا " بالألفِ جَيِّدٌ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة، فمِنَ الله وَعْدٌ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ، فجَرى مَجْرَى المواعدة ". وقال مكي أيضاً: " والاختيارُ " واعَدْنا " بالألفِ، لأن بمعنى وَعَدْنَا، في أحدِ مَعْنَيَيْه، وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة ".

و " وعدَ " يتعدَّى لاثنين، فموسى مفعولٌ أولُ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف، أي: تمامَ أربعين، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مَجْرَىٰ جَمْعِ المذكر السالم، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه:
459ـ وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني   وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ
بكسر النون، و " ليلةً " نصبٌ على التمييز، والعُقود التي هي من عِشْرين إلى تسعين وأحدَ عشرَ إلى تسعةَ عشرَ كلُّها تُمَيَّز بواحدٍ منصوبٍ.

وموسىٰ اسمٌ أعجمي [غيرُ منصرفٍ]، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ، والأصل: مُوشى ـ بالشين ـ لأنَّ " ماء " بلغتهم يقال له: " مُو " والشجر يقال له " شاء " فعرَّبته العربُ فقالوا موسى، قالوا: وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ.

السابقالتالي
2