الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }

قوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ يَوْماً }: " يوماً " مفعولٌ به، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: عذابَ يوم أو هولَ يوم، وأُجيز أن يكونَ منصوباً على الظرف، والمفعولُ محذوفٌ تقديره: واتقوا العذابَ في يومٍ صفتُه كَيْتَ وكَيْتَ، ومَنَع أبو البقاء كونَه ظرفاً، قال: " لأنَّ الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة " ، والجوابُ عَمَّا قاله: أن الأمرَ بالحَذَرِ من الأسبابِ المؤدِّيةِ إلى العذابِ في يومِ القيامةِ. وأصلُ اتَّقُوا: اوْتَقُوا، ففُعِل به ما تقدَّم فيتَتَّقُونَ } [البقرة: 22].

قوله: { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } التنكيرُ في " نفسٌ " و " شيئاً " معناه أنَّ نفساً من الأنفس لا تَجْزي عن نفس مثلِها شيئاً من الأشياء، وكذلك في " شفاعةٌ " و " عدلٌ " ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً لـ " يوماً " والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: لا تَجْزي فيه، ثم حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لأنَّ الظروفَ يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها، وهذا مذهبُ سيبويه. وقيل: بل حُذِفَ بعد حرفِ الجرِّ ووصولِ الفعل إليه فصار: " لا تَجْزيه " كقوله:
435ـ ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً   قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
ويُعْزى للأخفش، إلا أن المهدويَّ نَقَل أنَّ الوجهين المتقدمين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. ويَدُلُّ على حَذْفِ عائدِ الموصوفِ إذا كان منصوباً قولُه:
436ـ وما أَدْري: أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءِ   وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا
أي: أصابوه، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ التقديرُ: يوماً يومَ لا تَجْزي نفسٌ، فيصيرُ كقولهِ تعالى:يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ } [الانفطار: 19]، ويكونُ اليومُ الثاني بدلاً من " يوماً " الأولِ، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه كقوله تعالى:وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]، وعلى هذا لا يُحتاج إلى تقديرِ عائدٍ لأنَّ الظرف متى أُضيف في الجملةِ بعدَه لم يُؤْتَ له فيها بضمير إلا في ضرورةٍ، كقوله:
437ـ مَضَتْ مِئَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه   وعَشْرٌ بعدَ ذاكَ وحِجَّتانِ
و { عَن نَّفْسٍ } متعلِّقٌ بتَجْزي، فهو في محلِّ نَصْب به، قال أبو البقاء: " ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الحال ".

والجزاء: القضاءُ والمكافأةُ، قال الشاعر:
438ـ يَجْزِيه ربُّ العرشِ عَنِّي إذْ جَزَى   جناتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلَى
والإِجزاءُ: الإِغْناء والكِفاية، أَجْزَأَني كذا: كفاني، قال:
439ـ وأجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ   لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ
قيل: وأَجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربان. وقيل: إنَّ الجزاء والإِجزاء بمعنى، تقول منه: جَزَيْتُه وأَجْزَيْته، وقد قُرئ: " تُجْزِئُ " بضمِّ حرفِ المضارعة من أَجْزَأ، وَجَزَأْتُ بكذا أي: اجتزَأْتُ به، قال الشاعر:
440ـ فإنَّ الغَدْرَ في الأقوام عارٌ   وإنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُراعِ
أي: يَجْتَزِئ به.

قوله: " شيئاً " نصبٌ على المصدرِ، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاءَ شيءٌ، فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ " تَجْزِي " بمعنى " تَقْضي " ، أي: لا تَقْضي [نفسٌ] من غيرِها شيئاً من الحقوقِ، والأولُ أظهَرُ.

السابقالتالي
2