الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

قولُه تعالى: { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ }: الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم. و " أَمَرَ " يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَفُ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله:
423ـ أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به   فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ
فالناسَ مفعولٌ أولُ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان. والبِرُّ: سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما، والفعلُ [منه]: بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم، قال:
424ـ لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا   يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا
[أي: يُطيعونك، والبِرُّ أيضاً: ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم، ومنه قولُهم: " لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ " أي: لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ، قال:
425ـ أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه   وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ
والبَرُّ ـ بالفتح ـ الإِجلالُ والتعظيمُ، ومنه: وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ، أي: يُعَظِّمُهما، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه].

قوله: " وَتَنْسَوْن " داخلٌ في حَيِّز الإِنكار، وأصلُ تَنْسَوْن: تَنْسَيُون، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها، وقد تقدَّم فيٱشْتَرُواْ } [البقرة: 16]، فوزنُه تَفْعون، والنِّسيانُ: ضدُّ الذِّكْر، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ، ومنه:نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه، قال:
426ـ ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ   وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ
قوله: { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال، العاملُ فيها " تَنْسَوْن ". والتلاوةُ: التتابعُ، ومنه تلاوة القرآنِ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ، ومنه:وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } [الشمس: 2]، وأَصل تَتْلُون: تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ فوزنُه: تَفْعُون.

قوله: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو:أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 77]أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [يونس: 51]، والنيَّةُ بها التأخيرُ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول: ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ. وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده، فيقدِّر هنا: أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون، وكذا:أَفَلَمْ يَرَوْاْ } [سبأ: 9] أي: أَعَمُوا فلم يَرَوْا، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها. ومفعولُ " تَعْقِلون " غيرُ مرادٍ، لأنَّ المعنى: أفلا يكونُ منكم [عَقْلٌ]. وقيل: تقديرهُ: أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك.

والعَقْلُ: الإِدراكُ المانعُ من الخطأ، وأصلُه المَنْعُ: ومنه: العِقال، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى، قال علقمة:
427ـ عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ   كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ
قال ابن فارس: " ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ " ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها.

السابقالتالي
2