الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

قوله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }: الذين عطفٌ على " الذين " قبلَها، ثم لك اعتباران: أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله:
121ـ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ   وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله:
122ـ يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال   صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ
يعني: أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ.

والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ " الذين " المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً، كما مرَّ تفصيله، ويجوز أن يكونَ عطفاً على " المتقين " ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه " أولئك " وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ " الذين " الأولى، و " يؤمنون " صلةٌ وعائدٌ.

و " بما أُنْزِلَ " متعلِّقٌ به و " ما " موصولةٌ اسميةٌ، و " أُنْزِلَ " صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: " لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل ".

و " إليك " متعلِّقٌ بـ " أُنزل " ، ومعنى " إلى " انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ:وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2]، والتبيين:رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [يوسف: 33]، وموافقة اللام وفي ومِنْ:وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ } [النمل: 33] أي لك: وقال النابغة:
123ـ فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني   إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ
أي في الناس، وقال الآخر:
124ـ..........................   أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا
أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: " تَهْوَىٰ إليهم " بفتح الواو.

والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى:فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [الصافات: 177] أي حلَّ ووَصَل، و " ما " الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على " ما " الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على " ما " التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ.

و " مِنْ قبلِك " متعلِّقٌ بـ " أُنْزِلَ " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ " بعد " ، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإِعرابِ قولُه:
125ـ فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً   أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وقال آخر:
126ـ ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ   فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا
ومن البناء قولُه تعالى:لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم: 4]، وزعم بعضُهم أن " قبل " في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً، فإذا قلت: " قمتُ قبلَ زيد " فالتقدير: قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ، فحُذِف هذا كلُّه، ونَاب عنه " قبل زيد " وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله.

السابقالتالي
2