الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

قولُه: { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ } إنما كرَّر قولِه: " قُلْنا " لأنَّ الهبوطَيْنِ مختلفان باعتبارِ متعلَّقَيْهما، فالهبوطُ الأول [عَلَّق به العداوةَ، والثاني علَّقَ به إتيانَ الهدى. وقيل: " لأنَّ الهبوطَ الأول] من الجنةِ إلى السماءِ، والثاني من السماءِ إلى الأرض ". واستَعْبَدَه بعضُهم لأجلِ قوله: { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ }. وقال ابن عطيةِ: " وحكى النقاش أن الهبوطَ الثاني إنما هو من الجنة إلى السماءِ، والأَوْلَىٰ في ترتيبِ الآيةِ إنما هو إلى الأرضِ وهو الأخيرُ في الوقوعِ ". انتهى، وقيل: كُرِّر على سبيلِ التأكيدِ نحو قولِك: قُمْ قُمْ، والضمير في " منها " يَعُودُ على الجنةِ أو السماء.

قوله: " جميعاً " حالٌ من فاعلِ " اهبِطوا " أي: مجتمِعِين: إمَّا في زمانٍ واحدٍ أو في أزمنةٍ متفرقة لأنَّ المرادَ الاشتراكُ في أصلِ الفعل، وهذا [هو] الفرقُ بين: جاؤوا جميعاً، وجاؤوا معاً، فإن قولَك " معاً " يستلزمُ مجيئهم جميعاً في زمنٍ واحدٍ لِما دَلَّتْ عليه " مع " مِن الاصطحاب، بخِلاف " جميعاً " فإنها لا تفيدُ إلا أنه لم يتخلَّفْ أحدٌ منهمْ عن المجيءِ، من غيرِ تعرُّضٍ لاتحادِ الزمانِ. وقد جَرَتْ هذه المسألةُ بين ثعلب وغيره، فلم يعرِفْها ذاك الرجلُ فأفادها له ثعلب.

و " جميع " في الأصل من ألفاظِ التوكيد، نحو: " كُل " ، وبعضُهم عَدَّها معها. وقال ابنُ عطية: " وجميعاً حالٌ من الضميرِ في " اهبِطوا " وليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما، كأنه قال: " هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً " كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ، وأنَّ " جميعاً " تأكيدٌ له، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه. وقال بعضُهُم: التقديرُ: قُلْنا اهبِطوا مجتمِعِين فهبطوا جميعاً، فَحُذِفَ الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ.

قوله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع }... الآية. الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ. و " إمَّا " أصلُها: إن الشرطيةُ زِيدَتْ عليها " ما " تأكيداً، و " يأتينَّكم " في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، لأنه بُني لاتصالِه بنونِ التوكيدِ. وقيل: بل هو مُعْرَبٌ مطلقاً. وقيل: مبنيٌّ مطلقاً. والصحيح: التفصيلُ: إنْ باشَرَتْه كهذه الآيةِ بُني، وإلاَّ أُعْرِبَ، نحو: هل يقومانِّ؟ وبُني على الفتحِ طلباً للخفَّة، وقيل: بل بُني على السكونِ وحُرِّكَ بالفتحِ لالتقاءِ الساكنينِ. وذهب الزجاج والمبردُ إلى أن الفعلَ الواقعَ بعد إن الشرطية المؤكَّدة بـ " ما " يجب تأكيدُه بالنون، قالا: ولذلك لم يَأْتِ التنزيلُ إلا عليه. وذهب سيبويه إلى أنه جائزٌ لا واجبٌ، لكثرةِ ما جاءَ به منه في الشعر غيرَ مؤكَّد، فكثرةُ مجيئِه غيرَ مؤكَّدٍ يدلُّ على عَدَمِ الوجوبِ، فمِنْ ذلك قولُه:

السابقالتالي
2 3 4