الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ }

قوله تعالى: { وَقُلْنَا يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ }: هذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ: " إذْ قلنا " لا على " قُلْنا " وحدَه لاختلافِ زمنَيْهِما، و " أنت " توكيدٌ للضميرِ المستكنِّ في " اسكُن " ليصِحَّ العطفُ عليه، و " زوجُك " عَطْفٌ عليه، هذا مذهبِ البصريين، أعني: اشتراط الفصلِ بين المتعاطِفَيْن إذا كان المعطوفُ عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً، ولا يُشْترط أن يكونَ الفاصلُ توكيداً، [بل] أيَّ فصلٍ كان، نحو:مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [الأنعام: 148]. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك من غير فاصل وأنشدوا:
365ـ قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزهرٌ تَهادى   كنعاجِ الفَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريينَ ضرورةً لا يُقاسُ عليه. وقد مَنَعَ بعضَهُم أن يكونَ " زوجُك " عطفاً على الضميرِ المستكنِّ في " اسكُنْ " وجعله من عطفِ الجملِ، بمعنى أن يكونَ " زوجُك " مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ، أي: وَلْتَسْكُنْ زوجك، فحُذِف لدلالة " اسكنْ " عليه، ونَظَّره بقولِه تعالى:لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [طه: 58] وزعم أنه مذهبُ سيبويهِ، وكأن شُبْهَتَه في ذلك أنَّ مِنْ حقِّ المعطوفِ حُلولَه مَحَلَّ المعطوفِ عليه، ولا يَصِحُّ هنا حلولُ " زوجُك " محلَّ الضميرِ، لأنَّ فاعلَ فِعْلِ الأمر الواحدِ المذكَّر نحو: قُمْ واسكُنْ لا يكونُ إلاَّ ضميراً مستتراً، وكذلك فاعل نفعلُ، فكيف يَصِحُّ وقوعُ الظاهرِ موقَع المضمرِ الذي قبله؟ وهذا الذي زعمه ليس بشيءٍ لأنَّ مذهبَ سيبويهِ بنصِّه يخالِفُه، ولأنَّه لا خلافَ في صِحَّةِ: " تقوم هندٌ وزيدٌ " ، ولا يَصِحُّ مباشرةُ زيدٍ لـ " تقوم " لتأنيثه.

والسكونُ والسُّكْنى: الاستقرارُ. ومنه: المِسْكينُ لعدَمِ استقراره وحركتِه وتصرُّفِه، والسِّكِّينُ لأنها تَقْطَعُ حركةَ المذبوحِ، والسَّكِينة لأنَّ بها يَذْهَبُ القلقُ.

و " الجَنَّةَ " مفعولٌ به لا ظرفٌ، نحو: سَكَنْتُ الدارَ. وقيل: هي ظرفٌ على الاتساعِ، وكان الأصلُ تعديتَه إليها بـ " في " ، لكونها ظرفَ مكان مختصٍّ، وما بعد القولِ منصوبٌ به.

قوله: { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } هذه الجملةُ عَطْفٌ على " اسكُنْ " فهي في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، وأصلُ كُلْ: أُأْكُلْ بهمزتين: الأولى همزةُ وصلٍ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل: اُوكُلْ بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مجانساً لحركةِ ما قبلَها، إلا أنَّ العربَ حَذَفَتْ فاءَه في الأمرِ تخفيفاً فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوزنُه عُلْ، ومثلُه: خُذْ ومُرْ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها لا تقول من أَجَر: جُرْ. ولا تَرُدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول: قم وخذ وكُلْ، إلا " مُرْ " فإنَّ الكثيرَ رَدُّ فائِه بعد الواوِ والفاءِ قال تعالى:وَأْمُرْ قَوْمَكَ } [الأعراف: 145] ووَأْمُرْ أَهْلَكَ } [طه: 132]، وعدمُ الردِّ قليلٌ، وقد حَكَى سيبويه: " اؤْكُلْ " على الأصلِ وهو شاذٌّ.

السابقالتالي
2 3 4