الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ }: هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ المذكر، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها، وقد تُشَدَّد كقوله:
320ـ وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها   وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
وقد تُسَكَّنُ، وقد تُحْذَفُ كقوله:
321ـ فَبَيْنَاهُ يَشْرِي...........   ......................
والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه. و " لكم " متعلقٌ بَخَلَقَ، ومعناه السببيةُ، أي: لأجلِكم، وقيل: للمِلْك والإِباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه، وقيلَ: للاختصاص، و " ما " موصولةٌ و " في الأرض " صلُتها، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بها، و " جميعاً " حالٌ من المفعول بمعنى كل، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمانِ، وهذا هو الفارقُ بين قولِك: " جاؤوا جميعاً " و " جاؤوا معاً " ، فإنَّ " مع " تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع. قيل: وهي هنا حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه: " ما في الأرضِ " عامٌّ.

قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أصل " ثُمَّ " أن تقتضيَ تراخياً زمانياً، ولا زمانَ هنا، فقيل: إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ. وقيل: لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ ـ كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى ـ عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ.

واستوىٰ معناه لغةً: استقامَ واعتدلَ، مِن استوىٰ العُود. وقيل: عَلاَ وارتفع قال الشاعر:
322ـ فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ   وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى
وقال تعالى:فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } [المؤمنون: 28]، ومعناه هنا قَصَد وعَمَدَ، وفاعل استوىٰ ضميرٌ يعودُ على الله، وقيل: يعودُ على الدخان نقله ابن عطية، وهذا غلطٌ لوجهين، أحدهُما: عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه، والثاني: أنه يَرُدُّهُ قولُه: ثُمَّ استوىٰ إلى السماء، وهي " دُخانٌ ". و " إلى " حرفُ انتهاءٍ على بابها، وقيل: هي بمعنى " على " فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر:
323ـ قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ   مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
أي: استولى، ومثلُه قول الآخر:
324ـ فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ   تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ
وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ، و { إِلَى ٱلسَّمَآءِ } متعلِّقٌ بـ " استوى " ، و " فَسَوَّاهُنَّ " الضميرُ يعودُ على السماءِ: إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على الجَمْعِ، وقال الزمخشري: " هُنَّ " ضميرٌ مُبْهَمٌ، و " سبعَ سماواتٍ " يُفَسِّرُهُ كقولِهم: " رُبَّه رَجُلاً ". وقد رُدَّ عليه هذا، فإنَّه ليس من المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في سبعةِ مواضع: ضميرِ الشأن، والمجرور بـ " رُبَّ " ، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما جرى مَجْراهما، وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسَّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه، ثم قال هذا المعترض: " إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ " سبع سماواتٍ " بدلاً وهو الذي يقتضيه تشبيهُه برُبَّه رجلاً، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه، لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً كلياً، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما: أنه استوى إلى السماء.

السابقالتالي
2 3