الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }: " وُسْعَها " مفعولٌ ثانٍ. وقال ابنُ عطية: " يُكَلِّفُ " يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ، أحدُهما محذوفٌ، تقديرُه: عبادةً أو شيئاً ". قال الشيخ: " إن عَنى أنَّ أصلَه كذا فهو صحيحٌ، لأنَّ قولَه: " إلاَّ وُسْعَها " استثناءٌ مفرغٌ من المفعولِ الثاني، وإنْ عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصناعة فليس كذلك، بل الثاني هو " وُسْعَها " نحو: وما أعطَيْتُ زيداً إلا درهماً " و " ما ضربْتُ إلا زيداً " هذا في الصناعة هو المفعولُ وإن كان أصلُه: ما أعطيت زيداً شيئاً إلاّ درهماً ". والوُسْعُ: ما يَسَعُ الإِنسانَ، ولا يَضِيقُ عليه، ولا يَخْرج منه.

وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة: " إلا وَسِعَها " جَعَلَه فعلاً ماضياً، وخَرَّجُوا هذه القراءةَ على أنَّ الفعلَ فيها صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ تقديرُه: " إلاَّ ما وَسِعَها " وهذا الموصولُ هو المفعولُ الثاني كما كان " وُسْعَها كذلك في قراءةِ العامةِ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، بل عند الكوفيين، على أنَّ إضمارَ مثلِ هذا الموصولِ ضعيفٌ جداً إذ لا دلالةَ عليه، وهذا بخلافِ قولِ الآخر:
1148 ـ ما الذي دَأْبُه احتياطٌ وحَزْمٌ   وهواهُ أَطاعَ يَسْتَوِيان
وقول حسان أيضاً:
1149 ـ أَمَنْ يَهْجُو رسولَ الله منكم   ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءٌ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ الظاهرُ الثاني لأنها سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ عطفاً على " سَمِعْنا " و " أَطَعْنَا " أي: وقالوا أيضاً: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجهٍ آخرَ: وهو أَنْ تَجْعَلَ المفعولَ الثاني محذوفاً لفَهْمِ المعنى، وتَجْعَلَ هذه الجملة الفعلية في محلِّ نصبٍ صفةً لهذا المفعولِ، والتقديرُ: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً شيئاً إلاَّ وَسِعَها. قال ابن عطية: وفي قراءةِ ابن أبي عبلة تَجَوُّزٌ لأنه مقلوبٌ، وكان وجهُ اللفظِ: إلا وَسِعَتْه كما قال:وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [البقرة: 255]وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [طه: 98]، ولكن يجيءُ هذا من باب: " أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي ".

قوله: { لَهَا مَا كَسَبَتْ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها لاستئنافِها وهي كالتفسيرِ لِما قبلها؛ لأنَّ عَدَم مؤاخذتِها بكسْبِ غيرِها واحتمالَها ما حَصَّلَتْهُ هي فقط من جملةِ عدمِ تكليفِها بما لا تَسَعُه. وهل يظهرُ بين اختلافِ لفظَيْ فعلِ الكسبِ معنىً أم لا؟ فقال بعضُهم: نعم، وفَرَّقَ بأنَّ الكسبَ أَعَمُّ، إذ يقال: " كَسَب " لنفسِه ولغيرِه " ، و " اكتسب " أخصُّ؛ إذ لا يقال: " اكتسب لغيرِه " وأنشدَ قولَ الحطيئة:
1150 ـ أَلْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ   .........................
ويقال: هو كاسبُ أهلهِ، ولا يُقالُ: مكتسبُ أهلِه.

السابقالتالي
2 3