الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { لِلْفُقَرَآءِ }: في تعلُّقِ هذا الجارِّ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه سياقُ الكلامِ، واختلفت عباراتُ المُعْربين فيه، فقال مكي - ولم يذكُرْ غيرَه -: " أَعْطُوا للفقراءِ " وفي هذا نظرٌ، لأنه يلزمُ زيادةُ اللامِ في أحدِ مفعولَي أعطى، ولا تُزادُ اللامُ إلا لضعفِ العامل: " إمَّا بتقدُّمِ معمولِهِ كقولِهِ تعالى:لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43]، وإمَّا لكونِه فرعاً نحو قولِهِ تعالى:فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107] ويَبْعُد أن يُقالَ: لمَّا أُضْمِرَ العاملُ ضَعُفَ فَقَوِيَ باللامِ، على أنَّ بعضَهم يُجيز ذلك وإنْ لم يَضْعُفِ العاملُ، وجَعَلَ منهرَدِفَ لَكُم } [النمل: 72]، وسيأتي بيانُهُ في موضعه إن شاء الله تعالى: وقَدَّرَهُ أبو البقاء: " اعجبوا للفقراء " وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياقِ الكلامِ على العَجَبِ، وقَدَّرَهُ الزمخشري: " اعْمدوا أو اجعَلوا ما تُنْفقون " والأحسنُ من ذلكَ ما قدَّره مكي، لكنْ فيه ما تقدَّم.

الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: الصدقاتُ أو النفقاتُ التي تُنْفِقُونَهَا للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنهم لَمَّا حُثُّوا على الصدقاتِ قالوا: فلمَنْ هي؟ فَأُحِثُّوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدةُ بيانِ مَصْرِفِ الصدقاتِ. وهذا اختيارُ ابنِ الأنباري قال: " كما تقول: " عاقل لبيب " ، وقد تقدَّم وصفُ رجل، أي: الموصوفُ عاقلٌ، وتكتبون على الأكياس: " ألفان ومئتان " ، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد:
1081 ـ تسأَلُنِي عن زوجِها أيُّ فتى   خَبٌّ جَروزٌ وإذا جاعَ بكى
يريد: هو خَبّ.

الثالث: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بقولِهِ:إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ } [البقرة: 271] وهو مذهبُ القَفَّال، واستبعَدَه الناسُ لكثرةِ الفواصِلِ.

الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِه: { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } وفي هذا نظرٌ من حيث إنه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ، فيصيرُ نظيرَ قولِك: " مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صَرَّح بالمنع من ذلك - مُعَلِّلاً بما ذَكرتُه - الوَاحديُّ فقال: " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذه اللام " تنفقوا " الأخيرَ في الآيةِ المتقدمةِ، لأنه لا يُفْصَلُ بين العاملِ والمعمولِ بما ليس منه كما لا يجوزُ: " كانت زيداً الحُمَّى تأخُذُ ".

الخامس: أَنَّ " للفقراء " بدلٌ من قولِه: " فلأنفسِكم " ، وهذا مردودٌ قال الواحدي وغيرُه: " لأنَّ بدلَ الشيءِ من غيرهِ لا يكونُ إلا والمعنى مشتملٌ عليه، وليس كذلك ذِكْرُ النفسِ ههنا، لأنَّ الإِنفاقَ من حيث هو عائدٌ عليها، وللفقراءِ من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من بابِوَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران: 97] لأنَّ الأمرَ لازمٌ للمستطيع خاصةً " قلت: يعني أنَّ الفقراءَ ليسَتْ هي الأنفسَ ولا جزءاً منها ولا مشتملةً عليها، وكأن القائلَ بذلك توهَّم أنه من بابِ قولِه تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5 6